لم يكن الزمن الذي عاش فيه وأبدع الرسام الفرنسي سيميون شاردان زمناً يحتفل كثيراً بالفنون الدينية. فالحداثة والرسم الواقعي والكلاسيكية كانت جميعها قد مرت من هنا، مخلفة أعمالاً عظيمة تجعل من الرسم الديني حتى ولو أنتج تحفاً استثنائية، نتاجاً استثنائياً ولا سيما داخل الكنائس. وكذلك فإن العصر نفسه كان قد جعل للمرأة مكانة أساسية في العمل الفني لا سيما في لوحات القصور والطبقات الموسرة. فرانسوا بوشيه نفسه كان قد أضحى، وهو زعيم إحدى أغنى المرحل في ذلك الحين، سيداً من سادة فن الروكوكو. ومن هنا لم يكن غريباً أن يتحدث كثر عن شاردان بوصفه فناناً يتبع في رسومه هذا النمط. وربما ذلك لمجرد أن شاردان كان معاصراً لبوشيه وكان هذا الأخير أكثر منه شهرة وأكثر دنواً من البلاط الملكي وكبار الأعيان. ولقد احتاج الأمر إلى مزيد من إعادات النظر قبل أن تتبدل النظرة إلى شاردان ويوضع ولو متأخراً في مكانه الصحيح، وهو مكان يقع عند نقطة ما بين فن النهضة الإيطالية المتأخرة وتحديداً في بعدها الإنساني، كما عبر عنها بوسان الفرنسي الذي عاش وعمل طويلاً في إيطاليا، ولكن أكثر من ذلك، بين الفن الواقعي الخالص الذي عبرت عنه المدرسة الفنية الهولندية بزعامة يوهان فرمير، مما يعني أن جزءاً كبيراً من جهد شاردان الفني ارتبط برسم المشاهد المنزلية بل حتى الحياة اليومية للناس العاديين.
الحياة نفسها
مع هذا، وعلى رغم السمات الهولندية الحاضرة في العدد الأكبر من لوحات شاردان، فإن كثراً من النقاد والدارسين يفضلون أن يروا فيه استمراراً لمواطنه بوسان، الذي سيرسم شاردان، مثله الحياة نفسها كما هي، ولكن من دون أن يعني هذا أنه يرسم “شرائح معينة ومحددة” من هذه الحياة. ومن هنا ما يجري التشديد عليه دائماً من أن شاردان إنما تخلى قبل أي شيء آخر عن كل ما هو ظرفي حدثي في لوحاته، ليركز على الجوهر: على الحياة. ولما كان الجوهر الحياتي في لوحات المشاهد الداخلية يتعلق بالمرأة أكثر مما يتعلق بأي كائن آخر، يصبح التركيز على المرأة لديه منطقياً. ويصبح منطقياً أن المرأة لديه تصبح كل النساء وكل امرأة، بصرف النظر عن مكانتها الاجتماعية. إذ، حين يشغل الرسام وقته في التركيز على الكرامة الإنسانية لدى المرأة، لا تعود للأمر علاقة بأية تراتبية اجتماعية. وعلى هذا النحو قد يكون في إمكاننا أن نتأمل، مثلاً، في ثلاث لوحات لشاردان فيها نساء: إحداها تمثل أماً بورجوازية تشرف على زينة طفلتها قبل الخروج، والثانية تمثل صبية، من الواضح أنها تنتمي إلى طبقة اجتماعية عليا، وهي تمسك بين يديها مضرب كرة، والثالثة تمثل عاملة لدى مطبخ أسرة موسرة. لو فعلنا لأدهشنا تماثل النظرة والموقع والكرامة الإنسانية لدى النساء الثلاث. على الضد، مثلاً، مما هي حال المرأة لدى موليير.
نحو فن ديني جديد
على أية حال وفي صدد الحديث الذي بدأناه حول الفن الديني، لا بد دائماً من التوقف عند عدد من لوحات دينية رسمها شاردان في مراحل متفرقة من حياته ستكون هي على أية حال ما جعله يعتبر من المقربين من البلاط الملكي وبخاصة من الملك لويس الخامس عشر. ومن الغريب أن تكون واحدة من تلك اللوحات فقط في خلفية ذلك الاعتقاد الذي يمكن تلخيصه في أن شاردان حقق لوحات عديدة للملك وقدمها له بنفسه. واللوحة، وحجمها صغير جداً (عرضها أقل من 39 سم وارتفاعها بالكاد يتجاوز الـ49 سم ونصف) هي على أية حال واحدة من لوحتين متشابهتين توجد إحداهما اليوم في متحف “أرميتاج” في بطرسبرغ والثانية في متحف اللوفر الباريسي. علماً بأن التي نقدمها هنا وهي اللوحة المعروضة في الأرميتاج دخلت المتحف الروسي في عهد كاترين الثانية. أما الأولى فهي كانت واحدة من لوحتين قدمهما شاردان إلى الملك الفرنسي عام 1740، كما تذكر مجلة “مركور دي فرانس” الباريسية في خبر عن لقاء الملك شاردان وإعجابه الكبير بفنه، كما تذكر المجلة أن اللوحتين كانتا معروضتين في اللوفر منذ أشهر حين التقى الرسام الملك. والمهم أن البعد الديني في اللوحة التي تهمنا هنا يكمن في موضوعها. فهي لا تصور مشهداً كنسياً، ولا قديسين ولا ما يمت إلى اللوحات التاريخية بصلة، لكنها في الوقت نفسه تعكس مشاعر دينية تمت إلى الحياة اليومية بعلاقة وثيقة، بل لنقل إنها ترسم صورة عن الورع الديني في الحياة اليومية بدءاً مما يعنيه عنوانها. وهو بالتحديد “بييتا” وهي كلمة، بل حتى مصطلح إنجيلي وفني كذلك، يعني تحديداً أن اللوحة تمثل وفي غالب الأحيان علاقة التعاطف بين السيدة العذراء وابنها عيسى بالتالي تشير ولا سيما في فنون عصر النهضة إلى مشهد إيماني عميق يتناول تلك العلاقة بينهما، لكن الأمر يتناول هنا علاقة من النوع والتوجه أنفسهما بين أم وأطفال – أو ربما بين مربية أو خادمة في بيت ينتمي إلى الطبقة البورجوازية جديدة الصعود في المجتمع – ويدور المشهد قبل العشاء على الأرجح حيث لا يمكن لأفراد العائلة هؤلاء أن يبدأوا بتناول العشاء من دون أن يتلوا صلاة الشكر أولاً.
فن الطبيعة الميتة
في نهاية الأمر هو مشهد إنساني يصور لنا التقوى التي كانت جزءاً من الحياة المنزلية في كل مكان في المجتمع ولكن بخاصة في تلك الفئة، بالتالي كان هذا البعد في اللوحة ما زاد من ربط فن شاردان بالفن الواقعي الهولندي، ولكن أيضاً ما عبر عن عمق اهتمامه إلى جانب ذلك بما يسمى “الطبيعة الميتة في اللوحة” فإذا بهذه اللوحة وسواها من أعمال أخرى له مشابهة تمزج بين تيارات وأساليب عدة في وقت واحد، وطبعاً بعيداً جداً عن فن الروكوكو السائد في عصره. مهما يكن، وعلى ذكر لوحات الطبيعة الميتة قد يكون مفيداً هنا أن نذكر أن أولى اللوحات التي رسمها هذا الفنان المتميز، والباريسي الذي ندر له أن غادر المدينة أو رسم في المناطق الريفية، كانت لوحات تنتمي إلى “الطبيعة الميتة”، وهو لم يبتعد من هذا النوع إلا في شكل تدرجي حتى وصل في النهاية إلى المشاهد المنزلية التي كانت شهرة كبار المعلمين الهولنديين قامت عليها. ومع هذا، فإن شاردان، وعند نهاية مساره المهني، تخلى عن المشاهد المنزلية ليعود ولو جزئياً إلى لوحات الطبيعة الميتة التي راح يركز فيها على رسم الأواني بإبهار متجدد لفت معاصريه، خصوصاً أن عظمة ذلك الإبهار أتت من بساطة الرسم وبساطة الألوان التي راح يعتمدها. وفي هذا الإطار من المؤكد أن هذه اللوحة على صغر حجمها، تلعب دوراً انعطافياً، باعتبارها ضمت في آن معاً الطبيعة الميتة، واللوحة المنزلية، ولكن أيضاً أسلوب البورتريه ذا البرنامج (وهذا يلوح كما أسلفنا من خلال دلالة جلسة شخوصها وخصوصاً من خلال نظرتهم).
باريسي بكل معنى الكلمة
ولد جان باتيست – سيميون شاردان (1699 – 1779) في باريس التي عاش فيها معظم سنوات حياته، وخصوصاً في الضفة اليسرى، في حي سان سولبيس الذي لم يبارحه إلا في سنة 1757 حين منحه الملك لويس الخامس عشر دارة ومحترفاً في حي اللوفر. وكانت واحدة من لوحاته الأولى لفتت إليه الأنظار، متيحة له أن يدخل الأكاديمية الملكية للرسم والنحت ما أطلقه في عالم الفنون الفرنسية. وهو بدأ يعرض لوحاته في شكل متواصل في “الصالون” الرسمي منذ سنة 1737… إلى درجة أنه كان الوحيد في ذلك الزمن الذي عرضت له تسع لوحات مرة واحدة في صالون سنة 1759. وهو الصالون الذي كتب عنه الفيلسوف ديدرو باستفاضة معبراً عن إعجابه بـ”فن شاردان الذي ينبع من الحياة ومن جوهر الحياة ويصب فيهما”. ولئن كان شاردان رسم كثيراً أول الأمر، فإنه لاحقاً خفف من وتيرة إنتاجه لينصرف إلى أمور إدارية، لا سيما منذ عين (1761) أميناً للمال في “الصالون”.