تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » عوالم تشكيلية موازية في معرض باريسي عن الكينونة

عوالم تشكيلية موازية في معرض باريسي عن الكينونة

عوالم تشكيلية موازية في معرض باريسي عن الكينونة

في علم الكونيات، العالم الموازي هو عالم منفصل عن عالمنا، يقلب بقياساته الفضائية والزمنية الخاصة، وبالقوانين المختلفة التي تتحكّم به، المبادئ التي نعتقد أنها مطلقة وثابتة. عالم مفترض، لكن خصائصه تحضر في أعمال بعض الفنانين التشكيليين، كتلك التي تتوزع داخل المعرض الذي ينظمه حالياً “متحف باريس للفن الحديث” تحت عنوان “عوالم موازية”، وتعود إلى سبعة فنانين أوروبيين كبار ومعاصرين.

وفعلاً، تشكّل هذه الأعمال، بفرادتها، عوالم مستقلة، شخصية، يدعونا أصحابها من خلالها إلى توسيع دائرة عاداتنا الإدراكية، المرسّخة داخل العالم المرئي، بغية نقلنا إلى عالم موازٍ، شعري وحميم. ولإنجاز ذلك، يتبعون مناهج فنية مختلفة، فيتلاعب بعضهم بتنوّع الأشكال والدلالات ذات الانعكاسات المتعددة، بينما يبلور بعض آخر طقوساً دقيقة تدخل في حالة تصادي مع قوى غير مرئية.

الفرنسية ماري بورجيه (1952 ــ 2016) هي رائدة جيل من الفنانين الفرنسيين سعى إلى إخراج النحت من دائرة تصنيفه الضيقة. في عملها، لطالما ساءلت إدراكنا الحسي عبر تفكيك الصور النمطية البصرية واللغوية التي تتحكّم به. كيف؟ عبر استكشافها، باقتصاد كبير في الوسائل والمواد، أشياء من الحياة اليومية، متلاعبةً بتسمياتها ومختلف رموز تمثيلها. هكذا تحضر أعمالها، التي لا هي منحوتات، بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا لوحات أو رسوم، عند تقاطع عدة وسائط، إثر تحريف الفنانة بانتظام خصائص هذه الأخيرة فيها، وعبورها دوماً من النحت إلى الرسم، ومن الرسم إلى النحت.

بعض أعمال بورجيه تبدو مختزَلة في أبسط تعبيراتها، مشيَّدة أحياناً على قاعدة كلمة واحدة، لكنها تدهش المتأمل فيها ببداهتها التشكيلية وتعدد خطوط القراءة التي تولّدها. أعمال تستمد قدرتها الاستحضارية من إعادة تأويلها أشياء عادية تحيط بنا، على خلفية مراجع سينمائية، فنية أو أدبية. وبواسطتها، تفتح الفنانة باب التأمل في موضوعات عديدة، موقعةً نظرتنا في فخ ألغاز مستحيلة الحلّ، من خلال منهج فني تأخذ فيه بلبلة علامات الاستدلال كل معناها.

من جهته، طوّر السويسري هلموت فيديرلي (1944) عملاً تشكيلياً يقع عند تقاطع الفعل التصويري والوحي الشعري. ونظراً إلى استلهامه إرث التعبيرية المجرّدة، استبدل بسرعة العناصر المشهدية في لوحاته الأولى، بلغة مجرّدة أكثر فأكثر، قادته إلى إزالة أي إشارة إلى الواقع، وإلى استخدام مفردات محدودة، ثنائية الأبعاد، تنتظم حول علامات، حروف أو أشكال هندسية توقّع أعماله بطريقة قوية ومتباينة. وفي هذا السياق، تتبنّى بعض لوحاته بنية رسومية حازمة تقوم على مقابلة خطوط أفقية بأخرى عمودية، بينما تتراوح لوحات أخرى، بتصميماتها اللونية الأوسع، بين تصوير ظاهر وخلفية، بين ظل وضوء، وبين حركة وجمود.

بعد روحي وفكري

لكن جميع هذه الأعمال تتحلّى ببعد روحي وفكري يتجاوز الأشكال المجرّدة التي تتراءى على سطحها. بُعد يعود إلى تغذّي الفنان من الفكر العدمي لنيتشه وفلسفة رودولف شتاينر والشنتوية اليابانية، وإلى تأثّره بمُثُل جيل الـ “بيت” الاميركي وكتابات ألبير كامو، وتجواله الطويل في شرق آسيا والهند والشرق الأوسط، حيث تعرّف إلى أشكال أخرى من الحياة والتديّن والجماليات. من هنا اعتباره أن الفن يجب أن يعكس تجربة البحث الدائم عن الذات، لبلوغ تطّلب حقائقي ووجودي معيّن. اعتبار يفسّر هذه الراديكالية المستشعرة في منهج عمله.

الفرنسية هيلين غاراش (1928) اختارت الطين مادة لعملها، منذ البداية، لكونه الوحيد الذي يمكن العمل عليه وقولبته مباشرةً وفقاً للنموذج المختار. مذّاك، سعت إلى تجسيد المناظر به، والعناصر الطبيعية التي فتنتها في المناطق الفرنسية والسويسرية التي أقامت فيها. تجسيد يتم مباشرةً في المواقع المنتخَبة، ولكن مع أخذ الفنانة في الاعتبار شكل البحار أو الأشجار أو الجبال كما شاهدتها تحت سماوات أخرى، وفي ظروف إضاءة مختلفة. أما اهتمامها الدقيق بتضاريس هذه المواقع، وحتى بأسمائها، فيعكس ميلاً واضحاً إلى التوثيق العلمي، يفيدها لدى متابعة عملها على منحوتاتها في محترفها.

المثير في عمل غاراش هو مقاربتها موضوعاتها ككائنات تسعى إلى تشكيل بورتريه لها. مقاربة يحفّزها شكل من أشكال التعاطف، والحاجة إلى الإمساك بواقع يتجاوزها، وتشهد بالتالي على رغبة في “التقاط لحظة من علاقتها الشخصية بما تحبّه”، كما كتب الشاعر إيف بونفوا عنها. وسواء في تمثّلاتها لجبل “مون بلان”، أو في تلك التي أنجزتها لأشجار السنديان في غابة “فيرينيون، أو لمنازل، يقترح عملها في الواقع تمثيلاً لجسدها كما تتصوره، كما لو أنها تتابع من خلاله، بشكل شعري، طريق إدراكٍ للذات ذا مغذى صوفي.

الألماني هوبرت كيكول (1950) طوّر منذ الثمانينيات عملاً تشكيلياً يتميز بمفردات شكلية دقيقة ومتنوعة، ترتبط بالهندسة والفن المينيمالي. فمنحوتاته، مثل رسومه، تقتصر على نماذج هندسية ــ منزل، قبة، درج، نافذة ــ يُسقطها على شكل مجسّمات صغيرة، غالباً ما تحضر على شكل سلسلة أو تجهيز ممدّد. وبتعديله قياسات الأشياء الممثَّلة فيها، وتكرارها أو تركيبها على قاعدة، يفصلها عن سياقها الأصلي ويحرّرها من وظيفتها الأولى، مما يسمح لها ببلوغ الجانب الآخر من الواقع. أما الشعور بالاغتراب الذي تثيره لدى المتأمل فيها، فيسلط الضوء على المعنى الخفي لأشكال تمثيلها، ويمدّها ببعد شعري يتجاوز مرجعيتها الهندسية.

ومنذ البداية، شكّل الإسمنت مادة كيكول المفضّلة. لكن بغية إضفاء خفّة وشفافية على منحوتاته، المتقشّفة في أشكالها، صار يستبدل هذه المادة أحياناً بالزجاج والمعدن، علماً أن عدداً من هذه الأعمال يقوم على ذلك التوتر بين ثقل وخفة، انفتاح وانغلاق، تكرار وفرادة.

مفاجآت شارلوت رامبلينغ

البريطانية شارلوت رامبلينغ ليست فقط ممثّلة باهرة، وموسيقية بارعة، بل أيضاً فنانة تشكيلية تنجز منذ ثلاثة عقود لوحات ناتئة تعكس عملاً مدهشاً في تماسكه وحدّته ودلالاته، يأخذ في كل لوحة شكل طقسٍ متجدد. عمل يقوم على طلي لوح من الخشب المحوَّل بمادة الملاط، ثم التلاعب بهذه المادة لبلوغ شكلٍ محدد. بعد ذلك، تُسقط الفنانة على سطح اللوحة مزيجاً من الأصباغ يمنحها لوناً داكناً، ثم رملاً يغيّر مظهرها. لكن ثمة مقصد استحضاري واحد يعبر جميع لوحاتها، وتنبثق منه صورة متذبذبة وخاطفة نتعرّف فيها تارةً إلى وجه أو قامة بشرية، وطوراً إلى خلية يتم تفحّصها بالمجهر.

ومن خلال التقنية التي تستخدمها، تندرج رامبلينغ ضمن جيل من الفنانين المادّيين الذين تأثروا بعمل جان فوتريي في أربعينيات القرن الماضي. ففي لوحاتها، نستشفّ القلق نفسه الذي توحي به الأشكال المنبثقة من هذه السيرورة الإبداعية. أما البعد التسلسلي فيها، الذي تعكسه قياساتها المتطابقة تقريباً، فيعرّي مخاوف حميمة ترتبط بعالم الطفولة أو الموت.

الفرنسية آن ماري شنيدير (1962) تمارس التلوين والنحت والتصوير السينمائي، ولكن خصوصاً الرسم الذي بات وسيطها المفضّل، ويمثّل بالنسبة إليها شكلاً من أشكال الكتابة، مثل دفتر يوميات. في عملها، تبدي اقتصاداً كبيراً في الوسائل، بقصره على خطوط تشكيلية مرسومة بعفوية كبيرة، وعلى لونين، الأبيض والأسود، أو على خليط محدد من الألوان الأساسية. ومن رسمها، تنبثق بحرّية كبيرة وجوه بشرية وحيوانية في جوار أشياء من الواقع اليومي. شخصيات تعكس اهتمام الفنانة بحكايات الجن والشرائط المصوّرة.

بسيطة في ظاهرها، تبدو رسوم شنيدير مصممة بدقة على شكل إسقاطات معقّدة لرد فعل عاطفي أو جسدي تجاه إحساس أو حدث مُختبَر، وهو ما يحوّلها إلى مرآة لحالاتها النفسية، مخاوفها، شكوكها، ولطريقة رؤيتها للعالم. وفعلاً، تتفاعل الفنانة مع الصعوبات التي تواجهها من خلال مساءلة معيشها الخاص (العزلة، العلاقة الزوجية، الهوية…)، والأحداث العامة التي تبلغها عن طريق وسائل الإعلام (مكانة المرأة في المجتمع، قدر المهاجرين غير الشرعيين، الطابع البوليسي للمجتمع…). وبين عالمها الحميم والعالم الخارجي، تتنقّل بحساسية كبيرة يشهد عليها الجسد البشري الذي يحضر في أعمالها مشوّهاً أو في حالة محنة كبيرة.

أما البلجيكي بيار فايس (1950)، فبدأ مسيرته الفنية بإنجاز لوحات كبيرة الحجم تسكنها وجوه مرسومة بخطوط عصبية وحادّة، ما لبثت أن توارت لصالح هندسات ضخمة. ويترجم هذا التغيير في مفرداته التشكيلية اهتمامه المتزايد بخصوصيات فضاءنا الاجتماعي والظروف الحياتية الناتجة منها. خصوصيات يرى الفنان فيها سلسلة إكراهات وجودية، وهو ما يفسّر تكريسه عمله للبحث عن سُبُل لتحريرنا منها.

ومن هذا المنطلق، تستحضر أعماله غالباً شكل أقفاص أو بنيات صناعية تولّد شعوراً بسجن أو مكان مغلق. أعمال يلعب الفنان فيها على ازدواجية إدراكنا الحسي، من خلال تشييدات ذات خطوط مستقيمة تجسّد الشبكات التي تأسرنا، أو نأسر أنفسنا داخلها، أو من خلال التباس المواد المصنوعة منها. هكذا، يجعلنا نعي العنف الذي يُلحِقه الفضاء الاجتماعي بجسدنا، الذي يتعرّض تجواله باستمرار لفرملة أو عوائق عن طريق ممرات قامعة أو انحرافات قسرية.

يبقى أن نشير إلى أن فايس لا يقصر عمله على وسيط واحد أو تقنية محددة، بل يستخدم وينضد بحرية موادّ وتقنيات مختلفة وفقاً لقوتها الاستحضارية. ومثل أعمال معظم الفنانين الحاضرين في هذا المعرض، تردّنا إنجازاته، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إلى ثابتة واحدة: جسده الخاص. وهذا الحضور، الواضح أو الخفي، هو الذي يمدّ عمله ببعد سيرذاتي قوي، ويفسّر سطوته.