مصطفى راجح*
محمد مرشد ناجي أكثر فنان يمني عرف إمكانيات صوته، وتعامل معها بذكاء. وهو نموذج الفنان المثقف، المُلِم بتاريخ الفن اليمني، وألوانه، وألحانه، وأشعاره ونغماته.
مع أنه غنى كل الألوان الغنائية اليمنية، وأبدع فيها، إلا أن فنّه يكاد أن يكون لوناً جديداً متجاوزاً لها، ومطبوعا بطابعه الخاص والفريد. لن أكون مبالغاً لو قلت إنه أضاف “اللون المرشدي” لفن الغناء اليمني.
ملك العود محمد مرشد ناجي، هذا الفنان لا يُقلَّد ولا يستنسخ، وليس له شبيه.
بإمكان فنان شاب في صنعاء أن يُقَلِد السنيدار والحارثي وعلي السمة، وينجح إلى حد ما في محاولته للدخول في عتبة علي الآنسي.
كما أن فيصل علوي متاح للفنان الشاب في صنعاء، تعز، وبالتأكيد في عدن، وإن لم يكن الفنان المقلد له قادرا على إنتاج نفس نشوة فيصل وروحه المنشرحة، ونغمات عوده المتدفقة بالفرح والرقص والبهحة البكر للوديان والبراري في لحج وبلاد الحواشب.
أيوب ممكن التقاط نغمته وأسلوبه. محمد سعد عبدالله وعطروش ليس صعبا أن تتمثل إحساسهما، وتتواءم مع نغمتيهما، أكنت مستمعا أو هاويا أو فنانا شابا.
أبوبكر سالم، تألق وانتشر وشاع، حتى غدت نغماته متاحة لمن يتذوقها، ومن لا يُدرك منها سوى قشورها.
دوناً عنهم كلهم، المرشدي صعب المراس، وليس سهلاً مجاراته وتقليده. المرشدي ليس الجدار القصير والسهل الذي يمكن لفنان شاب التدرب عليه وتقليده، واتخاذه بطاقة مرور للجمهور العريض في عموم اليمن. أسلوبه ليس لغزاً، ولكن جودة أغانيه مشروطه بروحه هو، ونغمته الخاصة، وليست فورمات ثابتة بإمكان أي هاوٍ الاقتراب متها، وامتطاءها في طريقه للوصول إلى جمهور الطرب والغناء.
هل بإمكانك أن تتخيل فنانا يُقلِد المرشدي في أدائه لأغنية “يا غارة الله منه”، أو يترنم بنفس أسلوبه بأغنية “أراك طروباً والهاً كالمتيمِ”، التي أداها مجايليه من كبار الفنانين في اليمن، ولم يقترب واحداً منهم من مستوى أدائه، وقدرته على مزج روحه بنغمات الأغنية وكلماتها، وطلعاتها ونزولها ، محمولةً على صوته وقدرته الفذة على الأداء والتربيت على الكلمات والجُمل الغنائية.
يغسل القلب صوته العذب، وهو يربت بأناة على الكلمات، ويداعبها بإحساس رسام يأسرك أداؤه قبل اللحن والكلمات. تجد نفس الطابع من بداياته مع الأغنية العدنية؛ مثل “عرفت الحب”، و”قطفت لك”، وحتى ذروة أدائه للغناء الصنعاني.
محمد مرشد ناجي هو حفلات عدن الخمسينات والستينات في الهواء الطلق أمام الجمهور، ولحظات الانتظار، والمنافسة مع قامات أخرى كانت كذلك عنوانا للزمن الجميل، وتعبيرا عن مرحلة شباب اليمن وتوهجها، وصعودها: محمد سعد عبدالله، أبوبكر سالم، أيوب طارش، أحمد قاسم، علي الآنسي، الحارثي، عطروش، محمد عبده زيدي، السمة، وآخرون كانوا تعبيراً عن عافية سياسية وشعبية وتاريخية تزامنت مع ولادة اليمن الجديد في ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
كل واحد من هؤلاء الفنانين الكبار عالم بحد ذاته، له بصمته، وأسلوبه، ونغمته التي تميّزه.
كنا معا قبل أيام، نحيي ذكرى رحيله، أنا وعدد من الأصدقاء، وكان صوت المرشدي طريا ونقيا يعيد لنا لحظات توهج التمعت في زمن إخضرار الفن في ستينات وسبعينات الثورة والفن، وكانت ملامح صديقنا المولود في عدن تنفض عن وجهه كل تراكمات زمن الجدب الحاضر لتعود به إلى طفولته الأليفة، هناك حيث تفتح وعيه على المرشدي، والتمتعت أشواق الحب ورجفة الأحلام الكبيرة في عينا طالب في الإعدادية يستغرق بكل حواسه والمرشدي يشدو ويُطْرِب: “بس أنا توسل.. بس أنا فدالك.. لا تخلينا لوحدي”، المقطع الجميل من أغنية “مش مصدق” يردده عائدا إلى زمن قصي هناك في البعيد على بندر عدن.
كان المرشدي فنانا شاملا. في أناشيده الوطنية وأغنيته السياسية أبدع متجاوزاً اللحظة الآنية، لتبقى أغنيته في قلوب الناس بعد أن تتبدد المناسبات والحروب.
انتهت المناسبات وبقيت؛ أنا الشعب ونشوان، وأبو علي قال، وصنعا الكروم؛ الأغنية التي مرت بخفة على كل مدن اليمن شمالا وجنوبا بالنغم العذب الذي تمزّجَ في أدائه بعذوبة لا تقل عن أغانيه العاطفية.
الأغنية السياسية التي تنتج في فترة حرب أهلية، غالباً ما تضمر وتنتهي في وقت قياسي بعد نهاية الصراع. لكن “صنعاء الكروم”، التي غناها من كلمات سعيد شيباني، خلال حرب 1979، بين شطري اليمن، لم تمت، واحتفظت بكامل رونقها، وكأنها متعالية على واقعة حرب الإخوة الأعداء، والزمان والمكان الذي خُلِقت فيه.
“يا غارة الله منه” قصيدة بديعة للشاعر الغنائي المبدع أحمد الجابري، ولحنها وغناها الفنان محمد مرشد ناجي بطريقة متفردة وبديعة. كتب الجابري هذه القصيدة بنفس صنعاني، ولحنها الفنان المرشدي لتكون أغنية على النمط الصنعاني، الذي كان محمد مرشد ناجي أحد رواده المجددين. بدأ المرشدي غناءها أول مرة مع الموسيقى، منتصف السبعينات، وجددها لاحقا، بداية التسعينات، على العود بطريقة آخاذة وفاتنة. عزف وغناء آسرين وبانسجام تنتظم نغماته على روح فنان عاشق للفن ومتوحد به.
تستمع لأغنية “عليك سموني وسمسموني” من الحارثي، تخرج منها منتشياً، وفي ذروة الإعجاب بأدائه لها تتساءل بصيغة النفي: مستحيل فنان آخر يؤديها بأسلوب مختلف أفضل منه. ثم تسمعها من المرشدي، فإذا به يعيد بناءها على مقاس نغمته، وكأنها أغنية مختلفة أبدعها بقدرته على الخلق الفني المتفرد والنادر.
لا أسمع هذا الأغنية من أحدهما إلا وسمعتها من الآخر، وفي كل مرة اندهش للطريقتين كأنني أسمعهما لأول مرة.
حفلاته في ستينات وسبعينات القرن الماضي كان لها ذكرى خاصة في نفسه.
تحدث عن هذه الحفلاات الأسبوعية الفنية في إحدى مقابلاته لافتاً الانتباه إلى أهمية مواجهة الجمهور بالنسبة للفنان الشاب.
على الفنانين الشباب أن يدركوا أن الفنان الذي لا يغني في مواجهة الجمهور ولا يتعلم الغناء على النوتة الموسيقية ليس فنانا، هكذا تحدث ذات لقاء تلفزيوني، بلكنة من يتوخى تحفيز الفنانين الشباب لتجاوز دائرة تقليد تخصم من التراث الغنائي اليمني أكثر مما تضيف له.
كان المرشدي ملأ السمع والبصر في حياته وعلامة من علامات الفن اليمني، في النصف الثاني من القرن العشرين، وسيبقى ملأ السمع والبصر بإرثه الغنائي ومدرسته الفنية الاستثنائية، التي خلفها للأجيال من بعده.
تتعاظم قيمة هؤلاء الرواد مع مضي الزمن ولا تقل. تزداد أهمية منجز المرشدي، وغيره من فناني اليمن في ظل اتساع مساحة التصحر في اليمن ودوران دوامة حياة يومية جدباء، عجلة دورانها القاحلة لا تبقي ولا تذر.
لا زال كل مخزون المرشدي وأثره في الحياة موجودا هنا على هذه الأرض يعيش بيننا، ومتاحا للجميع للتماهي مع أوتاره والاتحاد مع نغمته وشدو صوته الجميل.
محمد مرشد ناجي، الذي أعرفه لم يمت ولن يموت، هذا ما ألمسه بعد عقد ونيف على رحيله. لقد هزم الموت، الذي زاره واقتطف حياته قبل 11 عاماً، وتصور أنه أوقف حياته بزيارته تلك.
أظنه قابل الموت بابتسامة رضا ساخرة وملامح مطمئنة متمتما بينه وبين نفسه وكأنه يخاطب زائراً متوقعا، احتاط لزيارته منذ زمن طويل:
“خذ الحطام يا ضيفي العزيز.. أما ما يحويه محمد مرشد ناجي فقد تركه ليحيا هنا بعيدا عن متناولك. أنا موجة حياة يا ضيفي العزيز، موجة توزعت في أثير هذه الأرض، ووجدان ناسها، ووديانها وسهولها وأشجارها، وكائناتها الحية”.
نقلا عن موقع “قناة بلقيس”