مهدي غلاب*
تختزل بعض مشاهد التشكيل الحديث خارج نطاق التصنيف الأكاديمي وباعتماد السلم الزمني، عددا من الإنجازات التعبيرية الفنية الحاضرة غيابيا، والغائبة واقعيا بسبب حضور ظرفي متقلب وزائل أو معنوي حسي أحيانا، متأثرة في ذلك بنغمية شعرية تؤسس للبعد الذاتي وترسم عمق الأحاسيس الداخلية المتوهجة، التي تنسكب على جنبات حدود النفس الخفية الضيقة. وهو اتجاه فني «قادم من نهر اللامبالاة ليستحم في قصيد البحر» بتعبير رامبو (Arthur Rimbaud) في «المركب السكران». هذا التحول الشاعري الذي انفلت من ضلع المدرسة الكلاسيكية وضع حجر الأساس لرسائل تعبيرية تنقل الفرح والحب والحزن والتشاؤم والمواساة والحماسة والعظمة بدل الموضوعات الكليانية البروتوكولية الشاملة. ظهر ذلك بالخصوص في أعمال بودلير و فيرلان ومالارمي، التي تعد بمثابة لوحات إيقاعية ليرية (lyrique) راقصة تعج بالرمزية والحركة وتمجد الذات. ارتسم هذا التوجه في الساحة الثقافية الشرقية منذ بدايات القرن العشرين مع تيارات الرومانسية الشعرية العربية، كالشابي وإبراهيم ناجي الذي اشتهر بقصيدة الأطلال، إلى جانب أعلام الرابطة القلمية أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. وهي اتجاهات شعرية متأثرة – بلا شك – بتحولات المدارس الأدبية الغربية، تستلهم قوتها التعبيرية من عناصر الطبيعية، ومن خصوصية أحاسيس الفرد وتجعل منها ملجأ جماليا لتجسيد الفتوة الرومانسية وتمجيد عظمة الذات والاحتفال بالمميزات الفردانية.
التعبيرات اللونية
امتد هذا التوجه إلى الحقل البصري فكان توهج الألوان وتزايد درجاتها وتفاقم التعبيرات اللونية الشاعرية الحساسة المعبرة عن الحب والرغبة، أو الضيق والألم (الوردي، اللازوردي، الخمري، الكارمن، السماوي، التركي، الليلي…) سمات مشتركة لدى الفرنسي ديلاكروا والإسباني ميرو وظهرت ملامح الريادة بالخصوص في أعمال واسيلي كاندنسكي ( w. Kandinsky). ما جعل عناصر التجريد سيدة المشهد تحتكم إلى التأويل والسريالية والضبابية والخيال، كمبادئ أساسية تطبع تحولاتها الحديثة. بينما تقود التوجهات المعاصرة عناصر متداخلة لا تخضع لجمالية مشتركة، من ذلك مبادئ المعنى والفكرة والتجذير والتذليل وتعدد أشكال المناحي والنواحي (الضوء، الزمانية temporalité، المرحلية، الأحادية monochrome، الأدنى minimale، اللامعقول، الاستفزاز provocation، الإثارة، التعدي transgression، اللغة، العقود الصورية contrats virtuels، الطرح الشكلي traitement formelle، الصمت، الأخلاق، الوعد، الهلام، الزائل éphémère..). وهو أمر توقعه بقوة المصمم الأمريكي سول لويت بدءا بما شكله في بداية ستينيات القرن الماضي (1962) من أبراج وتصميمات بنائية أحادية ذات مغزى توعوي تحريضي ينفتح فيها الحرف على الشكل الهندسي دون اعتبار لحضور الكتل الإنشائية الجامدة المنتصبة. وسواء كانت هذه الأنصاب من الفولاذ من الإسمنت، أو من الخشب فإن الأهمية الأولى ومحور الاهتمام يعود للقراءة المعنوية وما تحدثه من ردة فعل لدى المتقبل، ذلك أنها تتطور تدريجيا من الانبهار والتساؤل مرورا بالوعي والتبني والاقتباس والتقمص، وصولا إلى خلق الرجة في الوعي والضمير البشري، نظرا لتعاقب وتعقد خصوصيات طرح المفاهيم الخارقة التي أضحت تتعدى حدود الضمير والأخلاق وتتجاوز المادة الفقيرة، هذا إن وجدت أصلا.
بذلك يتجه الهدف الأساسي للفنون المعاصرة إلى تأسيس مسار فلسفي يتغذى من الصدمة والألم والعبثية وهو ما نَظره نيتشه سابقا (القرن 19) وسارتر لاحقا (القرن 20) فاستغلال المعطيات الجمالية الافتراضية لإيسيتور إيسو (( Isitore Isou مثلا، بإلقاء كرة في شلالات نياغارا يعد بمثابة وعد دون تطبيق، ووضع مربع أبيض على حائط أبيض للعالمي ماليفيتش، يحمل إرادة في التغيير وتأسيس ولادة جديدة انطلاقا من فراغ بصري، وكذلك انعكاس اللون الضوئي في الفراغ والضباب الأحمر والأزرق عند الأمريكي تيرال James Turell، يهدف إلى فرض وتجسيد العنصر التشكيلي اللامادي. وهكذا فإن ورقة طريقة إنجاز العمل البصري (التنصيبة) تنوب عن العمل التشكيلي المعروض نفسه، وتؤكد بالتالي وضعية الفراغ الملحوظ في المنجز المرئي، وتجعل البحث عن الجوهر حالة دائمة ومتكررة، ليتعمق حجم الصدمة وبُعد التأويلات منذ اكتشاف الفوتوغرافيا إلى اليوم، كما يرى التصور الغرينبيرغي (Clément Greenberg). يحدث ذلك رغم تجليات الإطار الشكلي وتوفر المستلزمات اللوجستية والإطارية، عبر الانخراط والمعالجة وتوفر العامل السريري النفسي، في ما يخص الباب السريالي ومعطيَيْ الإحاطة والإحالة (الفضاء، العنوان، الفنان، اللافتة، التقديم، الحدود، الافتتاح، البرنامج، التناول المطروح، المغزى). يعود ذلك سواء لطبيعة العمل في حد ذاته كمشروع فني غير مرئي (فكرة) بالأساس، سواء لقراءته الظرفية أو الجزئية أو الداخلية الانطباعية من طرف القارئ والجمهور عموما، نتيجة تداخل المعطيات وتفاوت نسب الفهم طبقا لتطور وتحور القراءات ولتحول جوهر الفنون البصرية المقترحة.
الخصوصية الرقمية
إن السعي إلى الاقتراب من الحاجة وملامسة الانتظارات العامة والخاصة والرغبة في الإدهاش والاهتمام بخلق عناصر أجناسية جديدة بسبب تأثيرات خصوصيات رقمية مستحدثة، وولوج مفاهيم جديدة لا تتعلق بالضرورة بالجماليات المعتادة (الجميلة) المتعارف عليها عوامل متفاوتة جعلت الفن المعاصر يحتكر مجمل المنجزات والابتكارات الخلاقة الغرائبية المثيرة والمنفلتة، وذلك باعتماد منجز غير محسوس لا يحمل بذور إجابات جاهزة (عبثي) لغرض توليد سؤال عميق يندفع داخل أغوار فلسفية ووجودية تبحث في مجالات تُهمش الحضور البصري أمام تعدد الوسائل الفنية الجديدة والتقائها لمزيد رسم العناء بدل الغناء وترجمة الهم البشري وإن بطرق هجينة ترسم على السطح شعارات الفوضى والابتذال والعنف واللذة والألم كخصوصيات تميز بها الطرح المعاصر. هكذا أمكن حصر عناصر اختفاء العلامات والمواضيع التشكيلية المقترحة على الجمهور برغبة تعبيرية ملحة من صانع التجربة والدربة ومؤسسها لغرض تحديد مجمل خاصيات الظاهرة المتفردة، وتسليط الضوء على عدد من الممارسات غير الملحوظة والنادرة في وقت تتزايد وتتطور فيه التعبيرات الفنية «الجمالية» طبقا للتقدم و»الرقي» الاجتماعي ومسايرة متطلبات الحاجة البشرية. وكلها علامات تختصر مجمل الصناعات الفنية المرتبطة بتحول الحاجة والمصلحة وتغير المفهوم العام للظاهرة البصرية.
*كاتب تونسي