مهدي غلاب*
يأخذنا دفق اللون المتوهج البراق، وتقودنا فوانيسه في ظلمات المسيرة المتغذية من شفق الروح إلى مدارات التشكل والاختلاف، رغبة في تجسيد السكينة البشرية بعد القفزات الماراثونية المتلاحقة في الشكل والماهية، بالحفاظ على التجربة المتقادمة مع الزمن في مقاربة ائتلافية أخوية فنية متفردة (Brotherhood) انحرفت عن التمشي المتداول (الفن الرافائيلي الحديث)، بإخضاعها لتجارب متهورة غريبة أحيانا ومميتة أحيانا أخرى، ما مهد المجال لانقسام الخط الرافائيلي الذي أسسه أنصار العالمي رافائيلو سانزيو (1483-1520) إلى متعاطفين مع المنحى التشكيلي الرياضي العلمي ومجموعة من «المنفلتين» المعارضين للتطورية التشكيلية الكونية، مثل جماعة باربيزون (Barbizon) المنحازين للواقعية والمشيدين بمجد الطبيعة، باستقرارهم الدائم وسط غابة فونتينبلو (Fontainebleau) جنوب شرق العاصمة الفرنسية باريس، منهم تيودور روسو وفرانسوا ميلي وائتلاف إخوان ما قبل الرافائيلية، محور تناولنا.
وهي حركة طالبت بمراجعة المسار الصوَري التشكيلي بمقاربات كنسية تأملية في الطبيعة والخلق، لإعادة قراءة فردانية لعدد من التجارب الخاصة مستوحاة من الروتين الفكتوري والجذور الأدبية القروسطية، لترسم بذلك الشخصيات أطيافا تتموقع بين المَوت والحياة، والعودة والحضور، عبرَ نَغمية شعرية تسردها الأثريات السلتية في الأفق البعيد. فَتَنفخ الصمت في التحولات المتتالية الاعتباطية تارة والمقامرة تارة أخرى، لتَرسل السكينَةَ رمزيةً للروح المقدسة، تحن إلى نظرة أركيولوجية مؤثثة بوسائل وأحجام لا تتماشى مع التحقيب أحيانا، وبالتوجه إلى الأعمال المذهبة الميتة الثابتة في صدر الجوقة المتخلية من ضوضاء الخطوطية وتداخل الأبعاد الذي اتبعته الموجة الثانية في النهضة الفنية الأوروبية، انطلاقا من أواخر القرن الخامس عشر.
وهو ائتلاف مجموعة الرواد الإنكليز والإيطاليين منهم، جان إفريت ميلي صاحب أيقونة «الفتاة العمياء» (1856)، كنموذج لفن الاختلاف، انتبهوا إلى العشوائية التي باتت تسطر المشهد وتغزو الساحة منها، الألوان البستالية الخفيفة، الضبابية السفوماتية، والاختيارات التأثيرية الكروماتيكية الثانوية (لازوردي، حمضي، ورد الخدود، سيقان العذراوات)، إضافة إلى المنحى العبثي العدمي بدءا من تكسير قاعدة التوازي الأفقي والعمودي، مرورا بنبذ التباين وتبني التمويه والحركة، وصولا إلى الإفراط في التفصيل والتقريب لتحقيق البعد البانورامي والخلفية المشهدية وحساب الأبعاد والعمق، وهي عمليات تقنية استثنائية تشكل العمق الأيقوني للظاهرة الرافائيلية. هذه المجموعة الشبانية أسست لحركة من أقصر التوجهات الفنية عمرا (1848-1855). نادت أساسا للاقتداء بمسار بوتيتشيلي (Botticelli) ملك العذراوات، الذي بشّر ببدايات الثورة الفلورنسية، فارتبطت الأعمال نسبيا بالتجربة المريرة الدرامية التي أعادت تجسيد الحركة من السرعة إلى البطء والأشياء من الحديث إلى القديم، عبر اعتماد إمضاء الأعمال من الخلف بدل الأسفل بشعار بي آر بي (PRP)، بمعنى إخوان ما قبل الرافائيلية.
غير أن عمرها القصير ارتبط خصوصا بالمنحى المتدهور لكل تجربة قدمها روادها جمعت في تفاصيلها بين المغامرة والعدمية والسخرية، من ذلك لوحة أوفيلي الشهيرة لجان ميلي التي أنجزها عام 1852، وهي لوحة كادت تودي بحياة الشخصية الواقعية المجسمة عندما سقطت في قناة مائية وكادت تقضي من برودة الماء، وكذلك الشأن بالنسبة لدانتي غابرييل روزيتي، الذي دفن أشعاره المكتوبة مع رفات زوجته، ثم فتح القبر بعد سبع سنوات لاستخراج القصائد وقراءتها. هذا البعد الغرائبي اكتمل مع تجربة بهلوانية عبثية لهولمان هنت في عمله «التيس الرسول» الذي تم إنجازه في 1854 وبقي متواصلا على مدى سنوات، حيث إنه مستمد من تجربة سفر إلى الأراضي الفلسطينية اشترى فيها الفنان تيسا يرافقه على جنبات البحر الميت غير بعيد عن أريحا، ما اضطره إلى رعايته ومتابعة تنقله عبر التضاريس المنخفضة انخفاضا غير مسبوق. كل هذه التجارب العلامية الظاهرة هي ما بقي من تراكمات هذه المجموعة التي اكتسبت شخصية فنية في التناول والحقيبة اللونية، خاصة المواضيع التي بقيت مستقلة ومتفردة، ما جعلها تنطبع في الذاكرة الفنية، رغم البعد المسرحي الأدائي التأملي المستجوب للمسيرة البشرية.
*كاتب وتشكيلي تونسي