تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » انقلاب المشهد البصري في نماذج المشروع الانطباعي

انقلاب المشهد البصري في نماذج المشروع الانطباعي

انقلاب المشهد البصري في نماذج المشروع الانطباعي

مهدي غلاب*
يذهب رائد التيار الكلاسيكي والناقد الفرنسي نيكولا بوالو (Nicolas Boileau) بقوله في منتصف القرن السابع عشر: «لا جميل إلا الشيء الحقيقي» إلى تمجيد وتقديس الأعمال الواقعية، ليؤكد الحضور المطلق للحقيقة الفطرية كسيدة على المشهد الأدبي، وهو ما أثر كثيرا في التوجهات الفنية عموما، وفي المشهد البصري خصوصا. فالصباغة والنحت والنقش والمعمار كفنون إبداعية كبرى تعتبر أجزاء مهمة من المعادلة التعبيرية الفنية، تسير جنبا إلى جنب مع توجهات المدارس الفكرية وتتفاعل مع خصائصها، وتتأثر بعواملها المتنوعة.
لكن هذا الاختيار، وإن شعّ لفترات متباعدة مستلهما الأمجاد التاريخية القديمة، فإن محدوديته ظهرت في صلب عناصر أوجه. من ذلك الاحتكام المفرط إلى الدقة الهندسية والمنطق الحسابي لقياس الأبعاد والأحجام والانضباط الرياضي الروتيني لإعادة إنتاج الواقع بدقة أدق منه أحيانا، ما يسقط العمل في خانة التمويه والخداع البصري، وهذا شأن معروف لدى رواد المدرسة الإسبانية، على غرار «فينيسيا أمام المرآة» لفيلاسكاز، والفلمنغية على غرار لوحة «الجميلات الثلاث» لريبنس (1635). وعمل «الزوجان آرنوفيلي» للهولندي فان آيك قبل ذلك بكثير.


تطورت هذه الخصائص في ظل نفوذ العنصر البلاطي ذي التوجه القوطي الكنسي، كاستلهام ومحاولة استرجاع للإرث العربي اليوناني الروماني (أعمال الفريسك داخل المعابد والمذابح والمعامد والدير، المنجزات الأيقونية، التعويذات المصغرة الجذابة، إسقاط أبعاد وتفاصيل المنحوتات على المحامل اللونية)، وتواصلت هذه الديناميكية مع تنامي فن البورتريه وأوتو بورتريه (التصوير الذاتي) لأغلب الأسماء الفنية، لاسيما في الفترة الكلاسيكية والواقعية، في ضوء غياب منافس قوي للأعمال اليدوية المنجزة بالفرشاة.
مع تغير المعطيات وظهور الصورة الفوتوغرافية منتصف القرن التاسع عشر، بدأ التجسيد الواقعي الوفي للأشكال والشخصيات يضمحل بصعود مشاغل ومباحث جديدة بسبب موجة النزوح الريفي إلى المدن في العالم الأوروبي، مع بداية تكون النسيج البورجوازي وتحول الممارسات والمعيشة والمفاهيم، فتمت إعادة ترتيب سلم الأولويات وتثمين الخيارات الفنتازية تارة، والعبثية طورا على غرار التوجه الباروك ((Baroque.

ثم بعد ذلك في جوهر الأعمال الانطباعية وما تحمله من لمسات فيها انحراف عن الواقع باعتماد تجاور الألوان (la juxtaposition) دون خلطها وتجاوز قاعدة الضوء والظلام، واعتماد الحركات السريعة لتجسيد الملامح والأشكال دون تفاصيل ورسم مظاهر الترف والمدنية الباريسية والمشاهد الخارجية، بجاذبية ضوئية متحررة، متحركة وخامة منعشة على مساند خارجية (محامل خارج الورشة) وتحويل الخلفية الداكنة إلى مصدر نور جذاب يتغذى منه المتقبل، وينتعش بمشاهد البحر والنهر، والشبق والجسد، وكساء وإكسسوارات أنيقة، وبتكثيف عناصر الطبيعة الحية المفعمة بالضوء والحركة والميتة المشبعة بالألوان الساطعة مع رواد مثل ماني ( E.Manet) وموني (C. Monet) وديقا (E.Degas) ورينوار (Renoir) وسيزان ( P.Cezanne) ورودان (A.Rodon) كعلامة في النحت الواقعي التاريخي والرمزي. يكتمل هذا المسار بإنتاج عدد من الأعمال البصرية المعروفة بتعدد المشهد البانورامي الواحد في أوقات مختلفة من اليوم، بأنامل هؤلاء الرواد، منها سلسلة مناظر ميناء المدينة النهرية الفرنسية «رُوان» التي سميت العاصمة الانطباعية، سلسلة أعمال «بركة الزنابق» وسلسلة أعمال «انطباع طلوع الشمس» لإدوارد موني، سلسلة السيدات (بدل العذراوات في الأعمال التاريخية) لأوغست رينوار، وسلسلة مشاهد القنص لغيستاف كوربي.


تبعا لذلك باتت القيمة الفنية للأعمال التشكيلية أواخر العصر الحديث، ومع بدايات التجارب الطلائعية (avant-gardisme) تنحصر في الأساس في مدى استجابتها لملامسة الهم البشري وتلبية النهم المرتبط بالخروج من الحدود المعاشية والانفتاح والاستهلاك والحداثة بإنتاج صورة تحمل قضايا واهتمامات وجماليات أخرى تجسد واقعا جديدا، يتميز باختلاف أدوات التعبير وتحرر الرغبة واتساع أفق المطالب وتطور الانتظارات. فالتقدم التدريجي لهذا التمشي جاء لاستبدال وإلغاء المقاييس والتقنيات الفنية، التي ألقت بظلالها على المشهد التشكيلي منذ قرون خلت عندما نشأ مفهوم المنظور. (perspective) والمنظور الفضائي والتدرج اللوني من البارد في الخلفية (أزرق، أخضر، رمادي) إلى الحار في المقدمة ( أحمر، أصفر) في خضم الأوج القوطي لأول مرة مع الإيطالي جيوتو (Giotto) في القرن الرابع عشر. وهو روتين رياضي محكوم بمعادلات مضبوطة طورها الإيطاليان ليونار دافنشي في العمل اللوني، ومايكل أنجلو في العمل النحتي.
هذه الضوابط أذهبت نكهة الإبداع والخلق وفرضت حضور العنصر الاستطيقي الوفي، وهو عامل تجاوزه الزمن، فتمت إعادة طرح المسألة الجمالية على الطاولة لاسيما بعد الصدمة التي أحدثها ظهور الفوتوغرافيا التي تحدث عنها المؤرخ والمجادل الجمالي الأمريكي كليمنت غرينبيرغ مطولا (C.Greenberg) في مُؤلفه «المقالات النقدية المجمعة»، الصادر في شيكاغو في 1953 عندما طرح مشروعه الحداثي الذي قارن فيه التمشي الأوروبي مع نظيره الأمريكي، ثم وضع الفروقات الواضحة بين «الكيتش» والفن الحداثي الحقيقي الذي يتميز بقدرة نقد ونقد ذاتي وبجودة تمكنه من المجاراة والتميز والاستقلالية.

*كاتب وتشكيلي تونسي