شعبية كبيرة يتمتع بها الرسام الأمريكي نورمان روكويل، «1894 1978»، حيث يعد من أعظم الفنانين، ولد في الجانب الغربي من «مانهاتن»، وأظهر براعة إبداعية منذ طفولته، حيث لاحظت والدته أول رسوماته وكان عن سفن حربية خلال اندلاع الحرب الإسبانية الأمريكية، وكان ذلك علامة على موهبة قادمة بقوة، والواقع أن والده كان يتمتع بالحس الأدبي، وكان يقرأ مؤلفات عدة ومتنوعة، خاصة أعمال وروايات المؤلف تشارلز ديكنز الكلاسيكية، وكان يقرأ للأسرة بصوت عال، وكان روكويل الابن يستمتع برسم شخصيات الروايات التي يتخيلها في ذهنه ويحولها إلى رسومات.
نسبة لولعه الكبير بفن الرسم، فقد التحق روكويل، خلال دراسته الثانوية، بمدرسة «تشيس» للفنون التطبيقية التي كانت تفتح أبوابها يومي الأربعاء والسبت، وفي عامه الأخير في المرحلة الثانوية قرر التوقف واصفاً الدراسة بأنها «مرحلة قاسية»، والتحق بالأكاديمية الوطنية للتصميم التي تؤهله إلى الالتحاق بكلية الفنون، وكان له ما أراد في عام 1910، وفيما بعد أصبحت رسوماته ومع نضوج أعماله وانتشارها وتداولها بين العامة، تظهر في بطاقات أعياد الميلاد والمناسبات الأمريكية الرسمية، وعرض عليه منصب مدير لمجلة تهتم بأمر بالكشافة الأمريكية وقبل به، وقدم روكويل خلال مشواره الفني العديد من الإبداعات واللوحات الخالدة.
لوحة «حرية التعبير»، هي واحدة من أهم أعمال روكويل، ورسمت بألوان الزيت، وهي الأولى ضمن أعمال أخرى تركز على الأهداف والشعارات المعروفة بسام «الحريات الأربع»، التي أعلنها الرئيس ال 32 لأمريكا فرانكلين روزفلت، وهي تعبر عن اهتمامات الفنان وتنتمي إلى اتجاهه الإبداعي، حيث كان هو فنان الشعب الأمريكي في القرن ال 20 بلا منازع، وانتهج أسلوباً سهلاً في تسجيل خواطره ومشاهداته وآرائه، وقد تربع على عرش هذا التخصص الفني الجماهيري، الذي يعرف باسم الإيضاحية، ويعني بالصورة التوضيحية المطبوعة المنفذة غالباً، بأسلوب واقعي مدروس، وكلما اكتملت فيه القواعد الفنية والكفاءة العالمية، كلما صار إبداعاً يتمتع بكل الخواص الفنية الراقية، بل ربما وصل إلى مرتبة الفن المتحفي الرفيع، كما هو الحال في أعمال عدة لروكويل التي ينفذها مكبرة بالألوان الزيتية على أكمل ما يكون الفن الجميل، وقد بلغ الفنان أوج تألقه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكانت لوحاته التي احتكرتها آنذاك مجلتا «مساء السبت»، و«شاهد»، العالميتان، تنفذ مكبرة، لتطبع بالملايين على أغلفتها، ثم تتناولها عدة جهات فنية وإعلامية أخرى في الوقت ذاته لتنشرها في ملصقات ومجلدات وكتب وبطاقات، وكذلك بواسطة المؤسسات المتخصصة، وبهذه الطريقة طبعت العديد من أعمال الفنان ما زاد من شهرته، وهو الذي وصفت لوحاته بأنها عبارة عن لقطات واعية بارعة، وتشبه الحكم والأمثال الشعبية، وتنتمي إلى وجدان الشعب تماماً مثل هذه اللوحة «حرية التعبير».
خلفية
اللوحة هي ضمن سلسلة لوحات استلهمت خطاب الرئيس فرانكلين روزفلت الذي ألقاه أمام الأمة في عام 1941، وتحدث فيه عن حقوق الإنسان، والذي أطلِق عليه خطاب الحريات الأربع، وتضمن 4 حريات أساسية يجب على الإنسان أن يتمتع بها: (حرية التعبير، حرية المعتقد، التحرر من الحاجة، والتحرر من الخوف)، وهذه يجب أن يتمتع بها كل إنسان في العالم، وكان الرئيس الأمريكي وقتها يعتقد أن تلك الحريات ستشكل أساس نظام عالمي لما بعد الحرب، حيث لخّص روزفلت قيم الديمقراطية التي تقف وراء توافق الحزبين الرئيسيين في أمريكا، وهذا الاقتباس الشهير من الخطاب يقدم تلك القيم: «بما أن الرجال لا يعيشون بالخبز وحده، فإنهم لا يقاتلون بالأسلحة وحدها»، وفي النصف الثاني من الخطاب سرد لفوائد الديمقراطية التي تشمل الفرص الاقتصادية، والعمالة، والضمان الاجتماعي، والوعد ب«الرعاية الصحية الكافية»، ومن بين الحريات الأربع، الحريتان الوحيدتان الموصوفتان في دستور الولايات المتحدة هما حرية التعبير وحرية العبادة، فيما تم دمج موضوع الحريات الأربع في نهاية المطاف في ميثاق الأطلسي، وكذلك ميثاق الأمم المتحدة.
أثر
كان لذلك الخطاب وقعه وأثره الكبير في المثقفين والفنانين والمبدعين، ومن ضمنهم روكويل، الذي حول معاني ومفاهيم الخطاب إلى 4 لوحات اعتبرت أيقونات في الولايات المتحدة، حيث تم نشر تلك الأعمال في عام 1943، في مجلة «مساء السبت»، مع مقال يبين ويوضح تلك الأعمال قام بكتابته المؤلف المسرحي الشهير بوث تاركينجتون، الحائز على جائزة بوليتزر، إضافة إلى عدد من الكتاب المشهورين، وتحولت تلك الأعمال إلى ملصقات وطوابع، ولقيت رواجاً منقطع النظير، حيث تم الاحتفاء بها من قبل المختصين والعامة حتى لقب الفنان بزعيم الفن الجماهيري، نسبة لذلك القبول الواسع الذي وجدته لوحاته وأعماله الإبداعية.
لوحة «حرية التعبير»، تصور مشهداً لاجتماع بلدة محلية صغيرة، ويظهر في الصورة شخص يدعى جيم إدجيرتون، قام بإلقاء خطاب الاجتماع على الناس في البلدة الذين احترقت مدرستهم القديمة، وأرادوا أن يبنوا مكانها واحدة جديدة، وبعد الاجتماع ألقى إدجيرتون ذلك الشاب الذي ينتمي إلى طبقة العمال كلمته، فهو من ذوي «الياقات الزرقاء؛ أي الشغيلة، ويظهر في مشهد اللوحة مرتدياً قميصاً منقوشاً وسترة من جلد الغزال، ويداه متسختان وبشرته أغمق من غيره من الحاضرين، فيما يرتدي الآخرون قمصاناً وربطات عنق وسترات بيضاء ويظهرون أكثر أناقة من المتحدث، غير أنهم أبدوا اهتماماً شديداً بالخطاب، ويمثل إدجيرتون في اللوحة جيل الشباب، فهو يبدو أقل عمراً من بقية الحضور، ويظهر وهو يقف شامخاً بفم مفتوح، وعينين لامعتين فيهما الكثير من التحدي والأمل في غد أفضل، ويتحدث ويبدو أنه غير خائف، أو ربما زال عنه الخوف بسبب الانتصارات السياسية التي تحققت في تلك الحقبة، ونيل الطبقات المختلفة العديد من الحقوق.
تفاصيل
هذه الوقفة للمتحدث الشاب، تحمل الكثير من الدلالات، ويشير بعض النقاد إلى أنه تم تصوير إدجيرتون في هذه اللوحة بصورة أقرب ما تكون إلى الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن، الشهير بمحرر العبيد، وموحد أمريكا، وذلك ما ذكره الكاتب والمحرر بروس كول من صحيفة «وول ستريت جورنال»، حيث أشار إلى أن موضوع الاجتماع الذي سبق الخطاب الذي في اللوحة هو مناقشة التقرير السنوي للمدينة، فيما أشار الناقد الفني جون أبدايك، إلى أنه قد تم رسم العمل من دون أي فرشاة تصويرية، بينما ذكر النقاد روبرت سكولز، أن العمل يُظهر الجمهور في حالة من الاهتمام الشديد والإعجاب بالمتحدث.