في زمن تتصارع فيه الذاكرة مع نيران الحرب يبرز اسم المصور اليمني عبدالرحمن الغابري كحارس أمين لتاريخ اليمن البصري، وهو الذي قدم تجربة تصوير احترافية ذات قيمة إنسانية فعلية ومعبرة في عالم الصورة الفوتوغرافية حظيت، ولا تزال، بقبول كبير، وشكلت علامة مميزة في تاريخ الصورة اليمنية القديمة والمعاصرة.
ويعد الغابري أحد رواد الصورة الفوتوغرافية القلائل في اليمن، ونظراً إلى رصيده الكبير في توثيق وأرشفة معظم جوانب الحياة اليمنية وتمثلاتها الرمزية، أطلق عليه لقب “ذاكرة اليمن البصرية”.
وصاد المصور اليمني منذ بداياته في عالم التصوير عام 1968 آلاف اللقطات والصور الفوتوغرافية البديعة والمعبرة من مناجم الوجوه والأماكن التي لا تنضب في اليمن وغيرها من بلدان العالم.
ترميم أرشيفه المرئي
حجم الأرشيف البصري الذي يمتلكه المصور الغابري يفوق المليون صورة فوتوغرافية تحكي عن حال اليمن السعيد أرضاً وإنساناً خلال فترة دامت لأكثر من نصف قرن من الزمن، إلى أن أضحت تلك الصور التي صادها ابن مدينة ذمار اليمنية، مرجعاً تاريخياً مرئياً للهوية اليمنية يستطيع من خلاله السائح والباحث والمنقب على الجمال المرئي التعرف على معالم التاريخ، والفن، والثقافة والسياسة، والطبيعة، وغيرها… في اليمن، لكن الغابري الذي وثق هذا الكم الهائل من الصور بات يخشى على أرشيفه الكبير من الضياع والاندثار، فيتحدث بنبرة حزن، “منعتني الحرب من ترميم هذا الأرشيف الكبير، ولم أرمم سوى 10 في المئة، عدا عن ذلك، فإن معظم الأشخاص قد ماتوا، ومعظم الأماكن تغيرت جذرياً حتى في الريف اليمني”.
ويعتقد المصور الغابري في حديثه مع “اندبندنت عربية” أن التطورات الحاصلة في اليمن أثرت سلباً حتى في نمط حياة المجتمع من ملبس ومأكل وحركة، مما يعكس في المقابل حجم المأساة التي امتدت إلى واقع الصورة الحاضرة فناً في أرشيفه والغائبة مكاناً وروحاً كنتيجة مباشرة لتداعيات الزمن وظروف الحرب.
الصورة الفوتوغرافية الميدانية
يعد أول من وثق الصورة الفوتوغرافية الميدانية في اليمن بعد المصور الشهير عمر العبسي. وإلى جانب ذلك كان يقوم بعملية تحميض وطبع أفلام وثائقية قديمة في غرفة التحميض (الدار كروم)، في ستينيات القرن الماضي، معية مصورين مصريين وهواة عرب قدموا لتصوير بعض الأفلام في صنعاء آنذاك، ثم انتقل إلى العمل الميداني بكاميرا تمتلكها الدولة آنذاك. وبعد ذلك “امتلكت الكاميرا الخاصة بي في نهاية عام 1969”.
عين أخرى
استهواه كثيراً فن التصوير، ويتقن إلى جانبه فنون مختلفة كالتمثيل والعزف والغيتار، أحب الكاميرا، واعتبرها عينه الأخرى، “الكاميرا بالنسبة لي عين أخرى تعود بي إلى الذاكرة وتعيد لي الأشياء التي من الممكن أن أفقدها، ولها حميمية في نفسي، ولذلك أحببتها حباً شديداً، وبرعت فيها”.
وثق الغابري لحظات تاريخية مهمة في اليمن، من عهود الرؤساء إلى مواكب القادة، ورافقت عدسة كاميراته المحافل والمناسبات الوطنية.
كمصور، جمعته سنوات الشباب بكل رؤساء اليمن، ابتداءً من أول رئيس للجمهورية اليمنية عبدالله السلال حتى علي عبدالله صالح، يقول، “وثقت صورهم جميعاً، ولديَّ علاقات شخصية جيدة معهم، سواء اختلفت أو اتفقت مع توجهاتهم السياسية، فأنا كموثق وصحافي أهتم بالجوانب الإنسانية، والصورة تتحدث عن المضمون”.
أعداء الصورة
يحلم المصور اليمني باستعادة أرشيفه الذي دمرته الحرب الدائرة في البلاد منذ عام 2014، والذي يقول “إنه أرشيف كبير ومتعدد المواضيع وشامل لكل مناحي الحياة في اليمن. هناك أشياء ضاعت من البلاد موجودة في أرشيفي، لقد دونت هذه المهمة بهمة وشغف، لأنني جزء من المجتمع اليمني ويهمني أن أدونه، لقد كان عندي خوف من أنني سأفتقد المشاهد، ولن أراها مرة أخرى”.
أضاف المصور اليمني “كنا قد بدأنا برقمنة الأرشيف إلكترونياً قبل الحرب بفترة، لكن جاءت الحرب ودمرت كل شيء، ونحن كنا قريبين من مكان حادثة وقوع صاروخ جبل عطان في العاصمة اليمنية صنعاء، مما دمر مكتبنا والأرشيف، حتى إن اللوحات الفوتوغرافية التي كانت معروضة تحولت إلى ركام”.
يخشى الغابري على أرشيفه المرئي من أعداء الصورة، وتداعيات الحرب، “فهؤلاء الراديكاليون كثر في اليمن”، لذلك قام بتوزيع 45 صندوقاً من الصور الخام إلى أماكن مختلفة، كإجراء احترازي.
متحف أنثروبولوجي
يرى الكاتب اليمني فتحي أبو النصر أن “أعمال المصور الغابري ومقتنياته البصرية العابرة للأزمان، تصلح لأن تكون متحفاً أنثروبولوجياً لأشياء ومكنونات يمنية مختلفة، تبدأ بالعمارة ولا تنتهي عند الأزياء، مروراً بشتى إضافات التاريخ على الشخصية اليمنية والمكان النوعي اليمني”. واعتبر أن “التجربة الرائدة بلغتها المستوعبة للأرشيفيات، كما بطاقتها النابضة بالإنسان والبيئة، وبتحولاتهما كذلك، تمثل في مخرجاتها كنزاً حقيقياً لانطواء مدخلاتها على مغامرات معرفية جوهرية، لفنان ليست غايته مجرد التوثيق النمطي، وإنما الخلق الفني المتراكم بالخبرات والمعني من الناحيتين السيوسولوجية، والإبتمسولوجية”.
والغابري ابن مدينة ذمار اليمنية والمولود فيها عام 1956، التحق بالتوجيه المعنوي للجيش اليمني في الستينيات، وابتعث إلى سوريا عام 1970 لدراسة فنون الطباعة، ودرس أيضاً الموسيقى والتمثيل، وحصل على فرصة للسفر إلى بيروت لدراسة الإخراج السينمائي عام 1975، وشارك للمرة الأولى في تصوير أفلام تسجيلية عن الحرب، منها “مكان الولادة فلسطين”، و”كفر شوبا النبطية” التي تتحدث عن اللاجئين في مخيمات صبرا وشاتيلا. وشارك في تأسيس نقابة الصحافيين اليمنيين، 1976، وتقلد منصب رئاسة الإقليم باتحاد المصورين العرب.
نقلا عن “اندبندنت عربية”