تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الواقعية السوداوية في لوحة «فقيرة القرية»

الواقعية السوداوية في لوحة «فقيرة القرية»

 

جان ديزيريه غوستاف كوربيه (1819 – 1877) هو رسام فرنسي تزعّم الحركة الواقعية في القرن التاسع عشر. ولد لأب مزارع، ذهب غوستاف لدراسة الحقوق في باريس عام 1840، ولكنه سرعان ما ترك الدراسة ليتجه إلى دراسة الفنون الجميلة التي كانت تستهويه كثيراً، بدأ بتعلم الرسم من خلال المراسم الحرة في سويسرا، حيث كان يرسم نماذج للموديلات ورسومات تمثل الطبيعة، كما أنه زار متحف اللوفر ليقلد الأعمال الفنية في المتحف. عرض أعماله في عدد من صالونات الفن، بعضها قوبل باستحسان جمهور الفن، وغيرها قوبل بالرفض كلوحته المسماة (هوماك) بسبب الأسلوب الجامد الخالي من العاطفة الذي يطغي على اللوحة.

وصف الفنان الكبير ديلاكروا لوحة (بعد العشاء في أورنان) لكوربيه بأنها عمل ثوري. ومن حسن حظ كوربيه أنه عاش في زمن سطوة الحداثة في فرنسا، فقد ارتبط بصداقات كثيرة مع كتاب وفلاسفة وشعراء؛ من بينهم: تشارلز بودلير، برودون وشانفلوري أثر كبير في تغير مساره الفني وخصوصاً الأخير الذي كان أول من أطلق اسم الواقعية في الفن التشكيلي، ذلك الأسلوب الذي طوره لاحقاً كوربيه وتجلى في جل أعماله، حتى إنه كان يوصي مريديه من الفنانين الشباب بنقل ما يرونه بشكل صادق في أعمالهم دون مبالغة.

رسم كوربيه العديد من اللوحات الواقعية المستوحاة من قسوة مناظر الثلج في الريف في المنطقة التي عاش فيها، من بينها «مرافقو الكلاب» و«فقيرة القرية».

اللوحة
«فقيرة القرية» هي واحدة من لوحات جوستاف كوربيه التي تجسد بجانب لوحات عديدة أخرى مفهومه للواقعية، رسمها كوربيه عام عام 1866، وقد وصفها الفرنسي بول سيزان بأنها تمثل عملاً أنجز بشكل أنيق وجميل، ويهدف إلى الجمع بين عدة موضوعات مهمة لرؤية كوربيه الفنية، فهي من اللوحات التي تجسد الفقر والعالم الريفي في منطقة فرانش كومتيه (المنطقة الأصلية للفنان)، وهي رؤية تماثل (واقعية البؤس) أو (بؤس الواقع) في حياة الريف كما اختبرها من كثب جوستاف كوربيه.

الواقعية السوداوية في لوحة «فقيرة القرية»

يظهر العمل ثلاث شخصيات (أم وابنتها والمعزاة)، يطلق على هذا العمل أحياناً اسم «المرأة مع الماعز»، ويظهر المشهد التصويري امرأة تنحني تحت ثقل حزمة من الأغصان التي تحملها بيد واحدة على ظهرها، واليد الأخرى مشغولة بسحب ماعز ضال. جسد المرأة المنحني إلى الأمام يعبر عن التعب والإرهاق. أمامها تسير فتاة صغيرة، وهي تحمل بفخر رغيف خبز كبيراً بين ذراعيها. يمكن أن يشير موقف الفتاة الطفلة التي تمشي بسرعة على النقيض من مشية والدتها المتثاقلة إلى موقف مؤلم حقيقي تفاعل معه كوربيه وأذهله.

تبرز اللوحة مناظر طبيعية شاسعة مغطاة بالكامل بالثلوج التي تحيط بشخصيات العمل الثلاث، لعب كوربيه على تناقض الألوان في هذه اللوحة على نحو ما نشاهده من ضوء غروب الشمس القادم من اليمين نحو تلك المساحة البيضاء التي تغمر اللوحة، مع فروق واضحة من تقاطع الضوء والظلال في مساحات متناثرة هنا وهناك على امتداد مساحة المنظر الطبيعي، هذا مع الانتباه للمسار الذي تسلكه الشخصيات الثلاث، وهو مسار تغزوه خطوط الشفق الطويلة والمزعجة والتي تنذر بسماء ملبدة بالغيوم، في إشارة واضحة إلى ما يهدد الشخصيات إن لم تسرع الأم وابنتها للوصول إلى وجهتهما أي «البيت».

يرى النقاد بعد تحليلهم لبنية العمل التصويرية أن الفنان جوستاف كوربيه قد قام بإنشاء منظر طبيعي شتوي رائع، مع حضور تصويري كبير. وهنا، فإن اللون الثنائي، أو ذلك التقاطع أو التباين بين الأسود والأبيض، يمنح اللوحة منظراً ساحراً وخالداً في أعمال كوربيه.

رفض السائد
لقد أثارت واقعية الفنان كوربيه، قطيعة كبرى مع التقليد الأكاديمي الذي يحرص على تقديم لوحات شاعرية مملوءة بالدراما والألوان، كان حذراً للغاية في فهمه للفن الواقعي، وهو فهم تجلى في كثير من مواقفه الحياتية والشخصية، لم يستطع بالمطلق أن يخون مبادئه التي تتعارض مع فهمه للحداثة، حداثة من نوع خاص وقادرة على فك عقد ورموز البشر الذين كانوا يعيشون في بيئات ريفية قاسية ومؤلمة.

هذا الوعي الفكري المتقدم جعل كوربيه يصطف إلى جانب مفكرين عظام في رؤيتهم الوجودية، فهو رأى العالم على حقيقته، وجعل الرسم مهمة حياته، وكان الوجود هو المصدر الرئيسي الذي يلهمه في إنتاج أعماله، فهو يعتمد مفاهيم توجيهية لا يمكنه الفكاك منها.