تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » كيف صار الناقد الفني “مغضوبا عليه” مجاملا ومحايدا؟

كيف صار الناقد الفني “مغضوبا عليه” مجاملا ومحايدا؟

كيف صار الناقد الفني "مغضوبا عليه" مجاملا ومحايدا؟

 

لأن دور الناقد توجيه الفنان بهدف الارتقاء بالفن فإن المجاملات تفقده هذا الدور، وتجعل التعامل بينهما قائماً على الكذب والتزلف، ويفقد الفنان الحوافز التي تحثه على التطور.

إلى جانب النقد الموضوعي الذي يقيم ويحلل ويشرح العمل الفني ويبرز مكامن قوته وضعفه بحيادية وعقلانية، هناك نوع آخر من النقد يعتمد بصورة كبيرة على العلاقات بين الفنان والناقد، إذ يكفي أن تكون العلاقة طيبة لكي يكيل الثاني المديح للأول ويثني على أعماله غافلاً عن أخطائه وعيوبه، مما يجعل العمل الإبداعي فريسة محاباة تنعكس سلباً على المشهد الفني في غياب ثقافة نقدية حقيقية.

غالباً ما تكون هناك صعوبة في تقبل النقد الهادف والموضوعي، بل يمكن القول إنه مرفوض بين أهل الوسط الفني، مقابل طغيان واضح لصبغة المجاملة في آراء بعض النقاد التي تلامس القشور من دون الغوص في عمق التجربة.

لا شك أن تغييب الحال النقدية الموضوعية يسهم في انتشار ما يمكن أن نسميه استهتار الفنانين بالعمل الفني، ويمنع تطور الإبداع وبلورة أفكار جديدة أقوى وأفضل، فضلاً عن تحول “فانز” الفنانين إلى نقاد من النوع الشرس، إذ يبالغون في التصفيق له ومدحه ومهاجمة خصومه بلا رادع أو شفقة، بل وبتشجيع من الفنان نفسه أحياناً.

فكيف ينظر الفنانون والنقاد إلى الحال النقدية بما لها وما عليها، وهل يؤيدون ظاهرة المجاملة التي يعتمدها بعض النقاد في تعاطيهم مع الفنان والعمل الفني، وما السلبيات التي يمكن أن يتركها هذا النوع من النقد على الفن؟

قصاص وانتقام

كل مواطن هو ناقد يعبر عن رأيه في العمل الفني من خلال قناته الخاصة، لذلك تتعدد الآراء ويكثر المديح، وهذه هي النظرية التي توصل إليها الممثل مهيار خضور الذي يقول لـ”اندبندنت عربية”، “ليس كل ما يكتب ويقال حقيقياً وينبع من ثقافة وإلمام بمهنة الصحافة، ولا يمكن تقييم الممثل إذا كان الناقد لا يملك خلفية ثقافية عنه، وهذا الأمر أدى إلى اختلاط الحابل بالنابل، لكنني قد أستوعب هذا الوضع وأستطيع استقراء النقد الموضوعي من غير موضوعي سواء إيجاباً أو سلباً، ولا أنكر أن هناك مجاملة في بعض الآراء، وقصاص وانتقام في آراء أخرى، وهي غالباً ما تكون موجهة ومشخصنة لحساب فنان بعينه، ولا شك أن النقد غير الموضوعي يؤدي إلى تراجع الفن، لأن صناعة الرأي جزء من العمل الفني وتسهم في تطوير محتواه والارتقاء بذوق المشاهد”.

ولأن دور الناقد توجيه الفنان بهدف الارتقاء بالفن فإن المجاملات تفقده هذا الدور، وتجعل التعامل بينهما قائماً على الكذب والتزلف، ويفقد الفنان الحوافز التي تحثه على التطور، لكن خضور يرى أن تراجع الفن لا يرتبط ارتباطاً مباشراً بآلية النقد، فـ”في ظل الفوضى الرقمية وتعدد الآراء غير الموضوعية التي ترفع من شأن عمل أو فنان على حساب عمل أو فنان أفضل، ليس على الفنان سوى الانطلاق من ذاته من خلال ثوابت لها علاقة بكيفية التعاطي مع الصحافة والآراء السلبية والإيجابية، ويفترض به أن يجتهد ويترك الحكم للميدان، والمديح في غير مكانه يؤذي الفنان الذي يعجز عن إثبات نفسه، وهذا الوضع طالما كان موجوداً عند كل الأجيال الفنية. فالفن ظالم ويخضع لفكرة النسبية وتكمن اللعبة في قدرة الفنان على إثبات نفسه من دون أن يتأثر بكل الآراء سلباً أو إيجاباً، ولأنه يعرف أين أصاب، وأين أخطأ فإن عليه أن يكون موضوعياً عند انتقاده لنفسه لكي يتطور”.

علاقات خاصة

انحسار النقد الحقيقي شرع الأبواب أمام الدخلاء الذين ينصاعون لمصالحهم ومصالح الفنان، وفي هذا الإطار يقول الإعلامي والناقد محمد حجازي، “لم يعد هناك وجود للنقد الحقيقي بل لوجهات نظر، وكل وجهة نظر تعتمد على العلاقة بين من يكتب ومن يُكتب عنه انطلاقاً من العلاقة الخاصة، فإذا كانت جيدة فإن الأول يتغاضى عن أخطاء الثاني ويحلق به في الأعالي مع أنه لا يستحق، ويتجاهل كل مساوئ العمل ويركز على ناحية واحدة ربما تكون مضيئة وهذا ليس نقداً، وفي رأيي أن النقاد الحقيقيين انقرضوا كما الديناصورات بسبب قلة الثقافة، ولا يوجد من يتابع الأعمال الفنية بصورة جيدة لكي يستحق لقب ناقد، ومن يتابع منشوراتهم على (فيسبوك) يجد أنها تقتصر على أخبار حفلات العشاء وموائد الطعام، واختفت العلاقة المهنية بين ما يقدمه الفنان ورأي الناقد في ما يفعله الأول، حتى إنه ينشر أخبار وصور أولاده وأسفاره السياحية وملابسه وماركاتها وطائرته الخاصة”.

ويعيد حجازي حال التراجع التي وصل إليها النقد إلى رداءة الزمن الذي نعيشه، موضحاً أنه “لو عدنا إلى الوراء واطلعنا على ما كان يكتبه النقاد المهمون سنجد أنهم كانوا مثقفين ولديهم آراء وأفكار ويملكون حرفية إبداء الرأي في ما يقرأونه أو يسمعونه أو يشاهدونه أو يعايشونه، ولم يكن هناك نقاش حول آرائهم سلباً أو إيجاباً، وهذا ما دفع دريد لحام ومحمد عبدالوهاب، بسبب تعرضهما لكثير من النقد إلى الدعوة لرفضه، لأن الناقد من وجهة نظرهما ليست له قيمة لكي نخاف أو ننزعج منه. حتى إن الثاني قال ذات مرة (ضع الصحف التي يشتمون ويكتبون فيها ضدك تحت قدميك لكي ترتفع وأكمل طريقك)، وهذه الحال مستمرة في ظل هيمنة واضحة للناقد الجاهل، وعدم تقدير الناقد المثقف، لذا غاب تقدير الأعمال الجيدة بوجود أكثرية تتطاول على المهنة ولا تفهمها”.

معادلة منقوصة

لا موضوعية في النقد، بحسب الناقد عبدالستار ناجي الذي يوضح أن “هذا الوضع لا يقتصر على العالم العربي بل يتجاوزه إلى أنحاء العالم، لأن النقد الفني صناعة شأنها شأن بقية الصناعات الخاصة بالحرف الفنية، وترتبط بعلاقات ومصالح وميول، وتنطلق من المبدع والمنتج وبقية السلسلة التي تشكل العمل الفني، ومن هنا تأتي لعبة تحريك المعادلات وربما قوانين اللعبة بالكامل، ويوجد حتماً نقاد متوازنون هم أقرب إلى الصواب والحقيقة، ولكن مفرداتهم وطروحاتهم تأتي عبر مضامين مركبة لحماية هذه التجربة أو ذاك الفنان أو المنتج، لأن الناقد لا يعيش وحده في الفراغ بل يرتبط بعلاقات، فهو هنا كاتب وهناك محلل وأيضاً مسؤول إعلامي، وغير ذلك من الحرف التي يمكن إسنادها إلى الناقد والمحلل الفني ليكون جزءاً حقيقياً من التجربة، وهذا الأمر لا يقاس بالسلبيات والإيجابيات، لأن وجود الناقد كجزء أساس من التجربة يؤمن حمايتها في المراحل الأولى، إذ يعمل نسبة كبيرة من النقاد كمرافقين لهذه التجربة أو تلك، مما يعني فرصة حقيقية لتقديم وجهات نظرهم، وهذا الأمر نلمسه بوضوح مع النسبة الأكبر من التجارب الهوليوودية أو المسرحية في برودواي، لذا فنحن أمام أمر يتجاوز السلب والإيجاب إلى الكينونة كجزء فاعل في ضمير التجربة الفنية”.

وعلى عكس ما نعتقد من أن المستوى الفني يتراجع لأسباب عدة من بينها سيطرة النقد المجامل، يؤكد ناجي أن “الفن لم يتراجع بل يتطور بشكل يومي، ولا مجال للتراجع لأننا أمام حرفيات تقفز إلى فضاءات بعيدة في أفق الإبداع والتطور التقني والإبداعي، وأنا أختلف شكلاً ومضموناً مع من يقول إن الماضي يمثل العصر الذهبي، بل إن العصور الذهبية هي القادم من أعمال ونتاجات، والنقد ليس وحده المسؤول عن الخلل إذا كان ثمة خلل، بل إنه يتطور وينبض بمدارس متجددة من العلم والعمل والبحث، ومدارس النقد اليوم تفوق كل الحرفيات، وهي أكثر تفهماً واستيعاباً للمتغيرات والعلاقات والمصالح وسنة التطور الفني. وتحميل النقد مسؤولية ما يحصل من خلل في بعض الأعمال أمر مجحف في حقه وحق النقاد، فلماذا يتحمل الناقد خطأ كاتب أو مبدع أو مخرج أو ممثل أو غيرهم من الحرفيين؟ إن شأنه شأن بقية عناصر الحرفة، والكل يكمل بعضه الآخر، ويمكن القول إن حرفة النقد، وهنا أتكلم عن النقد والنقاد الحقيقيين وليس وجهات النظر المتعجلة، في تطورها الإيجابي لا تقل قيمة ومكانة عن بقية الحرفيات، وحيثما يكون الناقد الحقيقي يكتشف المبدع قيمة الحلول والمضامين التي قدمها، ولا يمكن أن تكون هناك صناعة إبداعية من دون ناقد مبدع”.

مجاملات في كل شيء

بين المسايرة والموضوعية يقف الناقد طارق الشناوي إلى جانب الموضوعية والحقيقة في النقد. فيقول، “عندما يقدم صناع الدراما عملاً فنياً يشعرون داخلياً بأن بعض السلبيات تكتنفه أو أن هناك تقصيراً في بعض النواحي التي لم يتم تنفيذها كما ينبغي، لكنهم لا يعترفون بذلك، ودور الناقد هو قول الحقيقة التي قد تصطدم بصناع العمل الفني أو تتفق معهم، سواء أعلنوا موافقتهم أو لم يعلنوها، لكن من المهم أن يقول الناقد الحقيقية لأنه يراهن على المتلقي، وكما يحمي الجمهور الفنان عندما يشتري تذكرة ويشيد بالعمل، فإن الناقد يحرص أيضاً على زيادة ثقة الجمهور به، وهذا الأمر يتحقق عندما يقول ما يراه صواباً بينما يخسرها الناقد الذي يعتبر أن دوره تجميل العمل الفني”.

في المقابل لا ينفي الشناوي وجود مجاملات في النقد كما في كل شيء آخر. مضيفاً، “هي موجودة في كل شيء لأنها جزء من الحياة، ولكنها ليست مطلقة ونسبتها في النقد تعادل نسبتها في الحياة، وكثير جداً من جوانب حياتنا تقوم على المجاملات، لكن هناك نوعين من المجاملات: الأولى تهذب المعنى والثانية تلغيه، والناقد الذي يجامل على حساب قناعاته الشخصية يخسر الصدقية، وأنه لا يفيد العمل لأنه لا يمكن تزوير ذائقة الناس أو خداعهم، وحتى محمد عبدالوهاب كان لا يطيق النقد ويفضل عليه الكلام الجميل وهذه طبيعة إنسانية، والمتلقي هو من يحاسب الناقد غير الصادق لأن صدقيته تهتز، ولا يعود رأيه مؤثراً وهذا أكبر عقاب له”.