تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » المستقبل كما تصوّره الرسامون عبر مرور الزمن

المستقبل كما تصوّره الرسامون عبر مرور الزمن

المستقبل كما تصوّره الرسامون عبر مرور الزمن

 

اعتاد الفنانون منذ القدم حتى اليوم، على توقع المستقبل وتصور الأيام المقبلة وماذا ستحمل معها، من مفاجآت سارة أو كئيبة. هذا الموضوع هو مادة معرض فرنسي يقدم باقة كبيرة من اللوحات والمنحوتات منذ عصر النهضة حتى الزمن الحديث.

مَن منا لم يحلم بمعرفة ما سيكون عليه الغد؟ في كل زمان ومكان، حاول البشر سبر لغز المستقبل. ولأن الفنانين شهود على زمنهم والعالم الذي يحيط بهم، فقد تملّكهم أيضاً هذا الشاغل، كما يتجلى ذلك في المعرض المثير الذي ينظّمه حالياً متحف “الدير الملكي” في مدينة برو الفرنسية، بالتعاون مع متحف “توما هنري” في مدينة شيربور. فمن خلال عشرات اللوحات والمنحوتات والتجهيزات التي تغطي الفترة الممتدة من العصور الوسطى إلى اليوم، يهدف منظّموه إلى استكشاف طُرُق التنبؤ بالمستقبل كما صوّرها فنانون مثل ديورر وغوستاف دوريه ورودان وشاغال وفوجيتا، وإلى مساءلة الرغبة في معرفته والتأثير عليه التي تتسلط على أفعال الإنسان منذ فجر التاريخ.

thumbnail_Gustave DORÉ, Les Saltimbanques, dit aussi L'enfant blessé, 1874. jpg.jpg

وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن سؤال المستقبل هو الأكثر تواتراً وإثارةً للقلق والخوف في تاريخ البشرية. ومع أن التعريف الأدقّ للمستقبل هو العدم، لأن لا وجود له، ولأن الموت أو التواري يتربّع على خاتمته، إلا أن الإنسان سعى دائماً إلى إسقاط نفسه فيه، وإلى التكهّن بما لم يحدث بعد، ويمكن أن يحدث لاحقاً. ولا عجب في ذلك، فما الذي لسنا على استعداد لفعله بغية معرفة ما تتعذّر معرفته، التحكّم بما هو غير محدَّد، تجنّب الأسوأ والإمساك بالعدم المقبل؟ شاغِل هو العلامة المطلقة لقوتنا، أو لهشاشتنا، أمام العالم الذي نتواجد فيه. ونظراً إلى الأخطار المحدّقة أكثر فأكثر بوجودنا (احتباس حراري، تلوث، دمار بيئتنا الطبيعية، تآكل طبقة الأوزون، ذوبان الجليد وارتفاع نسبة المياه…)، يبدو المستقبل اليوم، بالنسبة إلى كثيرين، أكثر قتامةً من أي وقتٍ مضى، بينما يسعى آخرون إلى رؤيته كمكان تجدّد ممكن. وبين يأس وأمل وفضول ورضوخ، بات سؤال مستقبل البشرية في قلب تساؤلاتنا اليومية، وبالتالي موضوعاً مركزياً للفنانين. وهو ما يمنح المعرض الحالي المخصَّص له كل أهميته.

الصالة الأولى من هذا المعرض مرصودة لرؤى نهاية الزمان، للتنبؤات ذات الطبيعة الماورائية، ثم للتنبؤات المتعلّقة بالممارسات العرفية (divinatoires) الدنيوية، سواء كانت علمية أو باطنية. في هذا السياق، نعرف أن نهاية الزمان شكّلت الشاغل الأول للأنبياء والقديسين، مثل حزقيال الذي تنبأ بسقوط أورشليم وقيامة جميع الأموات، أو القديس يوحنا الذي تروي رؤياه المدوّنة في الإنجيل نهاية العالم قبل الدينونة. رؤيا فتنت فنانين كثر عبر التاريخ، فرصدوا لها لوحات باهرة، مثل ألبرخت ديورر وأوديلون رودون، ومنحوتات لا تقل فتنة، كمنحونة رودان “القيامة” (1888).

ولأن الأحلام أيضاً تسمح ببلوغ شكلٍ من أشكال المعرفة والتكهّن، يتوقف المعرض في هذه الصالة عند حلم يعقوب في التوراة، من خلال لوحتين تعودان إلى فرانشيسكو سوليماني ومارك شاغال، قبل أن ينتقل بنا إلى عصر النهضة حيث دفع الاهتمام المتجدد بالعصور القديمة الفنانين إلى تمثيل الممارسات العرفية الإغريقية والرومانية وشخصياتها الشهيرة، مثل كاسندرا العرّافة التي لم يصغٍ أحد إليها، أو بيثيا، كاهنة الإله أبولو في معبد دلفي، التي نشاهد في هذه الصالة لوحة معدنية لموضوعها أنجزها ليونار ليموزان عام 1543.

ونظراً إلى جاذبية هذه العرّافات القادمات من شرقٍ فاتن وغامض، تمت نصرتهن خلال العصور الوسطى بجعلهنّ يتنبأن بمجيء المسيح، وشكّلن موضوعاً تشكيلياً ثابتاً خلال القرن الخامس عشر، كل واحدة على حدة، بخلاف الأنبياء اليهود الذين رُسِموا غالباً مجموعين، ولكن يمكن التعرّف إلى كل منهم من خلال سمات خاصة به. ولأن الملائكة أيضاً حملوا رسائل إلهية إلى البشر تنير المستقبل، تحضر في هذه الصالة لوحة “البشارة” التي مثّل لوك أوليفيي ميرسون فيها الملاك جبرائيل وهو ينقل إلى مريم العذراء خبر حملها القريب بالمسيح.

في الصالة الثانية، المرصودة لفنون العرافة، نعرف أن المسيحية دانت هذه الفنون منذ القرن الرابع، باعتبارها مجرّد خرافة، ومع ذلك، استمرّت هذه الأخيرة حتى مطلع عصر النهضة، مثل التنجيم الذي نُظِر إليه كعلِم رياضي حتى إنشاء “الأكاديمية الملكية للعلوم” عام 1666، التي فصلته عن علم الفلك. ولذلك، نُقِشت رموز الأبراج على بوابات العديد من الكاتدرائيات القوطية، بينما روّجت الروزنامات له من منطلق أن البارئ هو الذي يتحكّم بحركة النجوم، وأن التنجيم لا يقرر قدراً مكتوباً سلفاً، لكنه يقرأ علاماته. وفي جوار لوحات تبيّن مدى اهتمام الفنانين بهذا “العلم” على مر الزمن، يتبيّن في هذه الصالة اهتمامهم أيضاً بفنّي قراءة ورق الـ “تارو” وقراءة الكف، وبسائر طُرُق الاستبصار (الكرة البلورية، البندول، ثفل القهوة…)، كما في لوحة جان كلود بونفون “ساحرة تقرأ أوراق التارو لشابة” (1830)، وفي لوحة كليمانتين دوندي “عرّافة تدرس كتاب استحضار الأرواح” (1847).

الصالة الثالثة مخصّصة لموضوع استلهام الفنانين من مصادر أدبية وأسطورية انطلاقاً من القرن التاسع عشر، وإعادة ابتكارهم إياها أحياناً بغية استكشاف وجوه تنبّؤية جديدة. وفي هذا السياق، حفّز دانتي وشكسبير وثربانتس الإبداع الفني، خصوصاً ساحرات مسرحية “ماكبث” اللواتي يعرفن المستقبل ويمكنهن التلاعب به، كما في لوحة تيودور شاسيريو “ماكبث والساحرات الثلاث” (1855)، وشخصية دون كيخوته الساذجة التي تصدّق كل شيء، كما في لوحة أنطوان كوابيل “دون كيخوته يستشير الرأس المسحور” (1732).

ومن خلال لوحات أخرى، نرى في هذه الصالة كيف توسّع أفق الفنانين في القرن التاسع عشر، فابتعدوا عن المصادر الإغريقية والرومانية القديمة للغرف من أساطير أوروبا السلتية والشرقية والشمالية، ورسموا ساحرات إسكندنافية، جنّيات وعرّافات سلتية، مثل فيليدا أو فيفيان. وفي مطلع القرن المذكور، حدث أيضاً تحوّل نموذجي في عملهم، إذ لم تعد التنبؤات مجرّد موضوع تشكيلي، بل بات الفن نفسه يتمتع بقدرة تنبؤية تسمح للفنان المستبصر بكشف عالم خيالي يمسخ الواقع، ويجتمع فيه الماضي والحاضر والمستقبل.

أما الشق المعاصر للمعرض، الذي يستضيفه متحف “توما هنري”، فيقارب في جزئه الأول الطرق التي ما زال الإنسان يسعى بها إلى التنبؤ بالمستقبل، معتمداً على تقنيات كان من المفترض أن تتوارى أمام سيادة المعرفة العلمية، كالتنجيم الذي يتمثّل من خلال رصائع الأبراج التي تنجزها ماي تاباكيان، وفن قراءة ورق الـ “تارو” الذي يحضر من خلال نماذج عن الأوراق التي تنجزها كلارا تيسو لهذه اللعبة، أو الدعوة إلى الوساطة والاستبصار، التي تجسّدها الشخصية الخيالية التي ابتكرها بابلو كوتس.

بعد ذلك، يسائل المعرض الأشكال الجديدة للتنبؤات، كتلك التي تقوم بها هواتفنا الذكية حين نكتب رسالة عليها، وتستعين إسميرالدا كوسماتوبولوس بها لخطّ قصائد هايكو رقمية، أو تلك الناتجة من خوفنا من المستقبل، ومن عدم قدرتنا على التحكّم بذلك الجانب غير المحدد من حياتنا، مما يدفع بعضنا إلى رؤية علامات في كل مكان، وإلى ربط أحداث بطُرُق عبثية وغير عقلانية، كما تبيّن ذلك سيلين تولوب في تجهيزها “علامات سوداء”، وفي لوحتها “نحن طيور العاصفة القادمة”.

ولأن التنبؤ ما هو إلا وسيلة لزرع في الحاضر بذور المستقبل المحتمل، ينتقل المعرض بنا في جزئه الأخير إلى المستقبل نفسه، مع سؤال: “كيف ننقذ العالم؟” الذي يحضر كعنصر مركزي داخل لوحة ماتيو بوشري المركّبة، من منطلق أنه بات سؤالاً يومياً، جوهرياً بقدر ما هو مقلِق، إعلامياً بقدر ما هو علمي. وفعلاً، باستكشافهم معتقدات وتكنولوجيات معاصرة، يسعى أصحاب الأعمال الفنية الحاضرة في هذا الجزء إلى التقدم على الطريق غير المؤكّد للمستقبل، مظهرين غالباً صعوبة التنبؤ به، لانعدام وجود مبدأ أكثر يقيناً من مبدأ عدم اليقين، ومراوحة التكهنات في شأنه بين “كارثة” و”رخاء”، كما يكتب فابيان شالون بأنبوب نيون، وإمكانية ألا يكون “نهاية سعيدة” بالضرورة، كما تلمّح إلى ذلك جيسي ديشي في تجهيزها “الجدار” الذي يشكل استكشافاً سينماتوغرافياً لكل النهايات المحتملة للعالم.

ومن الممكن حتى أن تكون حفلة الحياة قد انتهت، وبات فناء العالم وشيكاً، لكن “الزهور الصغيرة لنهاية العالم” التي يرسمها ريجيس بيراي في كل مكان، تزرع الأمل بتجدّد ممكن.

نقلا عن “اندبندنت عربية”