تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أغنية اليوم في اليمن.. غيابٌ حقيقي بحضور المطرب والملحن معاً

أغنية اليوم في اليمن.. غيابٌ حقيقي بحضور المطرب والملحن معاً

غناء مع كثيرٍ من اللادراية.. التاريخ "الضحل" في اليمن لتعليم موسيقيّ أكاديميّ!

 

زهير الطاهري
هل توجد مدرسة غنائية وموسيقية ذات خصوصية تنافسية ومتجددة؟

من وجهة نظري؛ حتى اليوم، لا توجد مدرسة موسيقيّة في اليمن، ولا يوجد مختصون في الأغنية اليمنية يمكنهم وضع خطوطها العريضة، حدودها ونقاط التقائها بالأغاني العربية، وأماكن الاختلاف بينهما، وتمييز مواضع الضعف والقوة فيها.

وهو ما يستدعي أيضًا إنتاج سؤالٍ داخل السؤال، على نحو: من أين يمكن أن يبدأ التطوير وكيف؟ وكيف يمكن تمييز ألوانها المختلفة؟

حتى اليوم، لا نجد ملحِّنًا يمنيًّا واحدًا استطاع إحداث أيّ تطوير في مستواها، أو حتى ينتج لحنًا فارقًا ومختلفًا ومتميزًا ولا تشعر معه بالتكرار؛ لأنّ جميع الملحنين ببساطة، يجهلون تلك التفاصيل الدقيقة التي تشكّلت منها الأغنية، فتجدهم يتحركون بشكل عشوائي بين مجموعة ألحان مستهلكة، فيعيدون تدويرها فقط.

منذ خمسين سنة أو أقل، كانت الأغنية ما تزال طازجة والمساحة اللحنية واسعة، فتمكن ملحِّنو وفنّانو ذلك الزمن بإمكانياتهم البسيطة من إنتاج تلك الألوان الغنائية المتنوعة، أما الآن فقد تغيرَ الوضع وضاقت المساحات، وقلَّ الاهتمام بالاختلاف، فلا تجد ملحِّنًا أو فنّانًا يسعى ليختلف عن البقية. وعلى العكس، تجدهم يقتربون من بعضهم، بقصد أو بغير قصد، لمجرد أن أحدهم حقّق انتشارًا، فحذا حذوه الآخرون!

ما يمكن معاينته في أغنية اليوم، يتكثف في غياب الرغبة في التميز وخلق البصمة الغنائية وتكوين هوية فنية مستقلة ولو ظاهريًّا، فالاستقلال الجوهري ليس صحيحًا، فالأصل واحد ومنبعه الروح نفسها، الروح الواحدة التي تشكل منها كل شيء، لكن الاستقلال الظاهري شيء ضروري، خصوصًا الفنان، يجب أن يمتلك أدواته الفنية التي لا تجعله نسخة مكررة من أحد.

لا بدّ من إدراك الفنان أو الملحن قدراتِه وملامحَه الفنية، إصغائه لصوته الداخلي، معرفته بهويات الآخرين وحدودها، التمييز بين الهُويات المختلفة، ومعرفة التفاصيل الدقيقة التي شكلتها، فلا يمكن تكوين هوية مستقلة ما لم تعرف حدود الآخرين وهوياتهم، فبدون الآخر سوف ندخل في مرحلة السائل وانعدام الهُويات.

قد يتماهى الفنان مع السائد، يواكب الموضات، ويسعى لإرضاء الجمهور، وتحقيق النجاح، لكنه في النهاية يخسر نفسه، يخسر الفن، وربما استفاق يومًا ولم يجد نفسه، فالكل يشبهونه ويشبههم، ولا أثر يدل عليه، ولا ملامح لهويته.

في كتابه “إنساني مفرط في إنسانيته”، يقول نيتشه: “كان الفنانون اليونانيون، مؤلفو التراجيديا مثلًا، يؤلفون بهدف تحقيق الانتصار، ولا يمكن تصور مجمل فنهم بدون اعتبار للمبارزة”. الانتصار والمبارزة وصف دقيق في تعريف الهوية، اتخاذ موقف مضادّ من الهُويات الأخرى، دراستها جيدًا، عوامل القوة ونقاط الضعف، حدود وأبعاد الشخصيات الأخرى، وتكوين هوية شخصية قادرة على المنافسة، وحماية الذات من الآخرين، وتعريفها، وحراستها بما هو ممكن وغير ممكن”. يواصل نيتشه قائلًا: “كان يتطلب قبل كل شيء أن يحقق عملهم درجات الامتياز في أعينهم، دون اعتبار للذوق الشائع”، لكنه لم ينسَ دور الفنان في رفع ذائقة الجمهور وكيفية الارتقاء بها؛ لذا يقول: “ينبغي أن يتم المرور من درجة أسلوبية إلى درجة أعلى ببطء، حتى يستطيع، لا الفنان وحده، بل الجمهور والمشاهدون أيضًا، أن يرافق هذا المرور، ويفهم ماذا يجري”.

ها قد انتهى نيتشه من حديثه عن الفن والامتياز والتربية الفنية للجمهور، أغلق كتابه أو مضى في حال سبيله، ولكنه ترك بداخلنا جميعًا سؤالًا واحدًا، هو خاص بالفنان اليمني اليوم فنّانًا أو ملحّنًا كان: من أنت؟ يمكنك الصمت وترك أغانيك تتحدث، وترد بالنيابة عنك، من أنت من خلال أغانيك؟ من أنت داخل هذا المشهد الغنائي الكبير والمستمر؟ من أنت الآن وغدًا وبعد غد؟

لا توجد إجابة واضحة، فالذي نسمعه مجموعة أصوات متداخلة وأصداء لا علاقة لك بها. فمن أنت؟

كان البردّوني دقيقًا وحصيفًا في تعريفه للشعر أو الفن بشكل عام، حينما قال: “هو ما يبقى من الأغنية بعد سماعها، والقصيدة بعد قراءتها”. السؤال الآن: ما الذي تبقى عندنا من الفنان اليمني اليوم؟ ما هي الأغنية التي بقيت في أذهانكم؟ ما هي الأغنية التي صنعت وعيًا فنيًّا أو شكلت فارقًا؟

ما الذي ينقص الفنان اليمني اليوم لكي يتميز؟ ما الذي امتلكه الأوّلون ولم يمتلكه الفنان اليوم؟ بل على العكس كل شيء صار متاحًا وسهلًا، أدوات أكثر دقة وتقنيات متطورة وسوشيال ميديا مرعبة في النشر والتوزيع.

نقلا عن منصة “خيوط”