تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » موسيقى الأوبرا جماليات الصوت وحركية الجسد

موسيقى الأوبرا جماليات الصوت وحركية الجسد

موسيقى الأوبرا جماليات الصوت وحركية الجسد

 

تعد موسيقى الأوبرا أحد الألوان الموسيقية الراقية التي تبتعد في عزفها وإيقاعها عن كل ما هو طربي تقليدي. فهي فن يعتمد إلى جانب الإيقاع على جماليات الصوت وحركية الجسد وفق قالب مسرحي مذهل. بحيث يعمل الملحن على ضبط توازنات القطعة الموسيقية حتى تتماشى مع عذوبة الصوت وخاماته، لكن بطريقة درامية تجيش المشاعر والأحاسيس وتنقل الجسد إلى عوالم متخيلة.

ونظراً إلى المكانة التي تستحوذ عليها الأوبرا في قلوب الناس فقد جعلت منها الطبقة البرجوازية المخملية تراثاً موسيقياً خاصاً بها مرتبطاً بالحفلات ومساءاتها الرومانسية. مع العلم أن الأوبرا وبسبب اتساعها من حيث كونها فضاءً موسيقياً، قادرة على أن تكون امتداداً حقيقياً لما يعرفه الواقع من تحولات فنية.

الوعي بالأوبرا كفن صعب ومركب يحتاج إلى فريق فني وجوق فيلارموني مكون من عشرات العازفين، مما جعل منها فناً يعيش غربة داخل العالم العربي. ويعد البعض أن السبب وراء ذلك يكمن في صعوبة الأوبرا وعدم قدرة الملحن العربي على المغامرة في تجريب موسيقى الأوبرا التي تبدو ذات سياق فني محدد مرتبط بالثقافة الغربية وبيئتها. وهو رأي محكوم في تقييمه إلى مفارقات ذات نزعة فنية محافظة وخجولة من اختراق أنساق الموسيقى الغربية وجمالياتها.

في حين يعد فريق آخر أن الأمر تتحكم فيه عوامل مرتبطة بمسألة الذوق. ذلك أن المستمع العربي غير معتاد على هذا النوع من الفن الراقي في صناعته والقوي في أدائه والغني في دلالاته الصوتية، وذلك لكونها موسيقى لا تتعلق بالطرب وعلى الإيقاع المتكرر التقليدي الذي عادة ما تنطبع به الموسيقى العربية. بل إن الأوبرا فن يعطي قيمة كبيرة للموسيقى ويجعلها تعمل بطريقة خفية في تأجيج دراما الأغنية.

غياب بالعالم العربي

لا نعثر في العالم العربي على تقاليد موسيقى الأوبرا، مع العلم أن هناك بعض الأصوات الفنية العربية لكنها نادرة وغالباً ما يصيبها التهميش والاغتراب. اختيار الأوبرا وسيلة للتعبير الموسيقي يعد مطلباً حداثياً بالنسبة للموسيقى العربية للخروج من طابعها التكراري المحاكاة للطرز الموسيقية التقليدي.

إنها نوع من التعبير الذي يجعل لا محالة الغناء والموسيقى يتمازجان مع المسرح. طريقة تتماهى فيها الفنون دفعة واحدة لتكون خليطاً فنياً مدهشاً قوياً في صنعته وعارفاً بذوقه. إن الغياب يجد جذوره في امتداد ثقافة تقليدية تحاول نوعاً ما تكتسح كل فنون التي تجعل من الحداثة أفقاً للتفكير والتأمل.

فامتداد الفن الترفيهي بالعالم العربي يجعل كثيراً من التجارب الأوبرالية العربية على ندرتها تموت من الداخل وتجهض كل محاولاتها وبواكيرها في محاولة تأسيس أوبرا عربية قادرة على مواجهة الغرب.

ليست المشكلة في الفنانين والعازفين والملحنين، بل إن الأمر مرتبط بالأساس في مسألة استيعاب قيمة وجماليات هذا الفن وقدرته على توسيع الصناعة الغنائية بالعالم العربي وجعلها ترتاد مصاف العالمية، خصوصاً أن الفنان العربي يعيش في ذاته كل الأنماط الموسيقية التي تجعله بصورة ضمنية يسهم في تطوير الموسيقى العربية وفتحها على آفاق أخرى.

إن التقدم يعد عنصراً مهماً في نضج الموسيقى العربية وشرطاً أساسياً لإحداث نوع من الاختراق الفني، بيد أن الموسيقى العربية في عمومها لا تتطور ولا تنحت شيئاً ولا تبحث لها عن جديد يعول عليه من الناحية الجمالية.

البحث عن حداثة موسيقية

إن الرهان على الترفيه والحفلات الموسيقية والمهرجانات الغنائية بكل ما تحاول هذه الفضاءات فرضه من هشاشة فنية، يدفع الموسيقى العربية بصورة ضمنية إلى تكرار نفسها. لكن كيف يمكن تحقيق حداثة فنية والغناء العربي ما زال يعد في “النهضة” الغنائية التي عرفتها مصر أفقاً فنياً بالنسبة له؟

صحيح أن المشرق العربي عرف منذ أربعينيات القرن الـ20 عدداً من الأصوات الغنائية المميزة، لكن الإشغال الموسيقي بقي ضعيفاً وهزيلاً مقارنة بمناطق أخرى من العالم.

بوتشيني صوت الأوبرا الإيطالية في كاليفورنيا البائسة
إن غياب موسيقى وغناء الأوبرا لم يبق حكراً على مستوى الممارسة وتثمين هذا اللون الفني. بحيث إن الغياب طال حتى دور الأوبرا التي تبقى قليلة ومتناثرة بالعالم العربي. فالمؤسسات الفنية لم تتعامل مع الفضاء العمومي بطريقة ديمقراطية تمكنها من إقامة وتشييد دور الأوبرا كما هي الحال لعملية بناء المسارح وصالات السينما. إذ تعد أن تشييد دور الأوبرا مضيعة للمال أمام ما تحتاج إليه هذه.

وفي وقت لا نتوفر فيه على تجارب عربية رائدة في الأوبرا مقارنة مع تجارب فنية أخرى. تأسيس دور الأوبرا إذاً رهين في نظر مؤسسات العالم العربي بوجود ثقافة فنية تحترم هذا اللون الفني وجماهير هلامية تشتري تذاكر للحضور إلى الأوبرا.

فن مركب

لكن مع ذلك هناك دور أوبرا مهمة في منطقة الخليج وتتوفر على معايير عالمية تجعلها تستقبل فرقاً عالمية شهيرة تقيم عديداً من العروض الفنية أمام دهشة الناس وإعجابهم بهذا الفن.

وبغض النظر عن مسألة تلقي موسيقى الأوبرا، فالأمر يرجع بدرجة أخرى إلى مسألة تربية الذوق الفني للناس ودعوتهم إلى الانفتاح على هذا اللون الفني الراقي. صحيح أن مقرراتنا الدراسية ومناهجنا التعليمية وبرامجنا الفنية لا تتوفر على تعليم أولي يعرف بمبادئ موسيقى الأوبرا وأنواعها وتجاربها ومدى قدرتها في خلق ذوق جمالي مغاير بالنسبة للمستمع. لكن مع ذلك فإن تشييد دور أوبرا في العالم العربي سيساعد الفنانين على الانفتاح صوب هذه الموسيقي، لا سيما أن هناك تجارب فنية عربية ذات صوت أوبرالي مدهش من ناحية الصوت.

تقول المغنية السورية لبنى القنطار “الغناء الأوبرالي من حيث الحرفية هو أقصى درجات التعبير الصوتي، وهو كما نعرف مرتبطاً بالأوبرا التي هي فن مركب وجامع لذروة الفنون كالمسرح والشعر والرقص والموسيقى والتشكيل. فمن خلال هذه الفنون العريقة واتساع شريحة المهتمين بها في أوروبا وانتقالها من النخبة إلى عامة الشعب استطاعت الأوبرا أن تكون انعكاساً للثقافة والطموح وتطلعات الفكر الراقي بشموليته وجمالية تعبيره مع تمازج الألحان الكنسية وأساليب أدائها مع المواضيع والنصوص الجديدة الدنيوية خلق هذا الفن”.

لعل أهم ما يميز الغناء الأوبرالي هو صفته التعبيرية فمن خلال هذا الصوت يجري تظهير أبعاد الشخصية الدرامية التي تمثلها في العمل المسرحي الأوبرالي.

وترصد إحدى الدراسات أن الأوبرا من الفنون المركبة التي تمزج الصوت والعزف والحركة. مما يعني أنها خطاب فني ذو أبعاد تركيبية تجعل المستمع أمام فرجة يمتزج فيها الصوت بالصورة. على هذا الأساس، يعد النقاد أن الأوبرا تمثل مدخلاً حداثياً حقيقياً بالنسبة للموسيقى العربية لكونها قادرة على أن تجمع تلابيب فنونها وتجعلها تنخرط في مشروع فني يدرج في طياتها كثيراً من الفنون التعبيرية.

بيد أن هذا التركيب لم يجعل الغرب منذ الفترة الوسيطية بعيداً من الأوبرا، لكونه عمل على مدار قرون من تأصيل جماليات الأوبرا ونقلها من مستوى فني إلى آخر.