تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » العرب وأرشفة الفنون البصرية: الذاكرة الغائبة في تاريخنا الثقافي

العرب وأرشفة الفنون البصرية: الذاكرة الغائبة في تاريخنا الثقافي

العرب وأرشفة الفنون البصرية: الذاكرة الغائبة في تاريخنا الثقافي

 

فريد الزاهي
يرغب الواحد منا، أكان طالبًا باحثًا، أو ناقدًا للفن، أو باحثًا متمكّنًا، أو صحافيًا، أن يدرس فنانًا تشكيليًا من الرواد في العالم العربي، فلا يجد أمامه إلا بعض اللوحات المبثوثة في المتاحف، الفردية، أو الوطنية، وبعض المقالات المتناثرة في الصحف والمجلات، وبعض الكتب والكاتالوغات التي يحصل عليها بجهد النفس. وحين تتجمع لديه هذه الوثائق، يجد فيها من التضارب في التواريخ والتحاليل لمسيره ما يجعله يضيف بدوره لهذه الضبابية كثيرًا من الغموض. وحين يتجه إلى ورثة الفنان الراحل، إن هو عثر عليهم وقبلوا التعامل معه، فإنه يجد أن الوثائق المتعلقة بالفنان متناثرة، أو مفقودة، خاصة إذا كان هؤلاء الورثة غير ذوي علاقة بالفن والثقافة، ولم يحافظوا على ذلك الإرث الوثائقي (السمعي والبصري والمكتوب)، أو أهملوه، أو اهتموا فقط بالإرث المالي والتركة التي خلفتها لهم أعمال الفنان الراحل.
وإذا كان عدد من البلدان العربية قد سعت للحفاظ على الإنتاج المكتوب لثقافتها بإنشاء مكتباتها الوطنية، فإن أرشيف الفنون البصرية يوكَل للأسف للمتاحف الشخصية والوطنية. والمتاحف، كما هو معلوم، لا تهتم إلا بالمنتَج البصري والفني للفنانين، ولا يمكنها أن توسع هذا الاهتمام للحياة الثقافية للفنان؛ ذلك أن علم المتاحف يختلف كثيرًا عن علم التوثيق والأرشفة، الذي يهتم بالوثائق المكتوبة والبصرية والرقمية.

إنه عمل بحث وتنقيب ونبش، وفي الآن نفسه عمل يسعى للحفاظ على هذا الموروث الهش، وضمان تداوله وتواتره. وبالرغم من أن عددًا من البلدان العربية قد عرف ظهور الفنون التشكيلية من أواسط القرن التاسع عشر ونهاياته، فإنها لم تفكر لحد اليوم في إنشاء معاهد وطنية لتاريخ الفنون، تكون المحرك البحثي الأساس في مجال تاريخ الفنون المحلية وحيوات الفنانين وفي موروثهم الثقافي، وتغدو بذلك المورد الرئيس لأرشيف الفنون البصرية.

الأرشيف ذاكرة تستدعي النبش
يوثق الأرشيف لكتابات ومراسلات الفنانين، ولأسفارهم، ورسومهم التمهيدية ومشاريعهم ومشكلاتهم الاجتماعية ولعلاقاتهم بالسلطة وبالمثقفين الآخرين، كما لنوعية ثقافتهم ولمذكراتهم ومراسلاتهم وبياناتهم. فإذا كان المتحف يقدم لنا إبداعاتهم الفنية، فإن مواد الأرشيف وعناصره تفصح لنا عن علاقة الفنان بهذه الإبداعات، وأحيانًا عن لحظات إبداعها وكيفية تبلورها، والمدة التي استغرق إنتاجها. ومما لا شك فيه أن المتاحف الافتراضية يمكنها أن تُخرح للنور العناصر الأرشيفية التي تتوفر عليها للكشف عن حياة الفنان، وعن بعض ما يمكن أن يضيء بعض أعماله الشهيرة، التي وسمت تاريخ الفن المحلي، أو العالمي.
فلولا هذه العناصر الأرشيفية لما استطعنا، مثلًا، أن نؤرخ بدقة لرحلتيْ هنري ماتيس إلى المغرب في بدايات القرن الماضي، ذلك أن مراسلاته المحفوظة والصور الفوتوغرافية الملتقطة له تمكننا من الوقوف بدقة على كل ما أحاط بتحولاته في تلك الفترة، وبنوعية علاقته بالمغرب، وبالدوافع الخفية الثاوية وراء تينك الرحلتين. كما أن أرشيف روبرت روشنبرغ يشكل مادة خصبة للتعرف على رحلتيه بصحبة ساي تومبلي إلى المغرب في بداية خمسينيات القرن الماضي، بما تتضمنه من مراسلات ومن صور فوتوغرافية ومن رسوم تمهيدية للرجلين. وقد يكون للفنان همّ أرشيفي في الحفاظ على الوثائق كافة التي تتعلق بمسيره الإبداعي، كما هو أمر عدد منهم. وهو ما يشكل مكسبًا يسهل جمعه بعد رحيله، ويشكل قاعدة أساسًا لرسم معالم حياته الفنية والاجتماعية، التي ستظل حاضرة بشكل راسخ في تاريخ الفن. أرشيف الفنان قد يفصح عن أمور تسلط الأضواء على حيوات بعض الفنانين في غرابتها وتفردها ومعاناتها، كما كانت حياة لؤي كيالي، أو الجيلالي الغرباوي، وعباس الصلادي، وغيرهم. إنها تمكننا من فهم تعرجات حيوات كانت فريسة للعذاب والكآبة، وأحيانًا للبؤس والجنون.
ثمة كثير من الفنانين العرب الرواد الحديثين منهم والمعاصرين، الذين كانوا يمارسون الكتابة. ولقد وقفت على ذلك بشكل عيني في مصاحبتي لمحمد القاسمي في السنوات الأخيرة من حياته. فهذا الفنان كان يعشق الكتابة باللغتين العربية والفرنسية، ولا يمر حدث ولا تخطر له خاطرة إلا ونراه يدونها ويعلق عليها على قصاصة ورق. وكان الرجل غزير الإنتاج.

بيد أن هذا الموروث الذي يمكنه أن يسلط الضوء على كثير من جوانب حياته وإبداعه لا يزال طيَّ الخفاء، مثله مثل ما تركه الجيلالي الغرباوي من كتابات ورسوم، كشفنا عنها لأول مرة في المعرض الاستعادي الذي أقمناه له منذ أكثر من عقد من الزمن. وقد أنجزتُ على هامش هذا المعرض، بمعية مصور محترف، فيلمًا وثائقيًا عن الغرباوي، قمت فيه بتصوير أطلال بيته في قصبة الأوداية (في ضاحية الرباط)، حيث كان يختلي وسط أعشاش اللقالق، ومقابل الآثار الرومانية والمرينية. كما حاورت صديقه الطبيب الذي كان يهتم به في باريس، وسعينا إلى التعرف على موقع قبره المجهول بالمقبرة المطلة على مدينة فاس. ومن حسنات هذا البحث الوثائقي أن وزارة الثقافة عمدت إلى ترميم بيته ووضع لوحة تشير إلى ذلك، وأن سلطات مدينة فاس رممت قبره المهمل ووضعت عليه ما يشير إلى ذلك أيضًا.
وأذكر أنني تقدمت في أواخر التسعينيات بمشروع برنامج توثيقي عن الفنون التشكيلية للقناة التلفزيونية المغربية الثانية مع مخرج سينمائي مغربي (عبد القادر لقطع) مهتم بها، وكان أول من أخرج أفلامًا عن بعض رموزها. كان البرنامج يتضمن، إضافة إلى حلقات عن الفنانين المعاصرين، حلقة شهرية مطولة عن فنان من رواد الحركة التشكيلية. لكن المشروع لم يحظ للأسف باهتمام القناة، مع أن مديرها آنذاك كان صديقًا لنا معًا. وها هم فنانو الجيل الحديث الأول قد رحلوا تباعًا من غير أن يتركوا لنا وثائق بصرية حوارية عن معايشتهم لمرحلة ما بعد استقلال البلدان العربية، وحياتها الثقافية والسياسية وأحداثها التشكيلية البارزة التي حبلت بها الستينيات والسبعينيات بالأخص.
وكم أسعدتني مبادرة الصديق إبراهيم العلوي بإنشاء أرشيف الفنون في مدينة مراكش. فالرجل قد قضى عقودًا مديرًا لمتحف معهد العالم العربي، ونظم عددًا من المعارض الفردية والجماعية للفنانين العرب والمغاربيين منذ الثمانينيات، وكان وراء إنشاء الرصيد الفني للمتحف. وكتابه الذي أصدره عن الحداثات العربية بالفرنسية في العام الماضي شاهد على علاقاته المتينة مع رموز الفن العربي الحديث والمعاصر. إنها ذاكرة سوف تضخ تجربتها الشخصية في هذه المؤسسة الأرشيفية للفنون العربية، وتشكل أساسًا لها، وستغتني حتمًا بمساهمات المهمومين بقضايا الذاكرة الثقافية لهذه الفنون كافة. وهو ما يعني أن المبادرات الفردية الواعية يمكنها أن تكون مصيرية في وضع الأسس لأرشيف عربي ينقذ ذاكرة الفن العربي بجميع مناحيه من التلف، كما من جشع جماعي التحف والوثائق.

الأرشيف ومفارقات الذاكرة في العصر الرقمي
لقد أضعنا فرصة تكوين أرشيف فنوننا البصرية في العقود الماضية، لأن التواصلات اليوم ومنذ أكثر من عقدين تتم بالوسائط الإلكترونية. وإن كانت هذه الوسائط تشكل ذاكرة محمولة وسهلة المشاطرة والخزن، ويمكنها أن تشكل عمادًا لرقمنة الوثائق وحفظها، إلا أن لها مع ذلك حدودها. ففي الوقت الذي بدأنا نشهد فيه رقمنة المجلات الثقافية والكتب، لأنها تدخل في الملك العمومي، تظل الوثائق المتعلقة بالفنانين التشكيليين والبصريين خفية عن الأنظار، أو في أحسن الأحوال في الكتب النادرة التي تخصص لهم، فلا نحظى في هذه الحال إلا بصور لوحاتهم في المزادات العلنية، أو في دور بيع الأعمال الفنية.

“كم أسعدتني مبادرة الصديق إبراهيم العلوي بإنشاء أرشيف الفنون في مدينة مراكش”

تكمن المفارقة، إذًا، في أننا ولجنا العصر الرقمي، الذي يمكّن من إشاعة صور تلك الوثائق، من غير أن نكون قد أنجزنا أرشيف الفنون العربية. ولا يخفى أن هذا الأرشيف يمكن أن تسهر عليه المؤسسات الخاصة بالفنانين، أو متاحفهم الفردية.

فالرقمنة تسمح بالحفاظ على الوثائق الأصل، وإذاعة وتدويل نسخها المصورة. وهي تمنح للأرشيف إمكان السفر خارج فضائه الخاص، وتسمح للباحثين والنقاد من استخدامها بشكل مباشر من غير عناء التنقل. لكن الرقمنة لا تشكل أرشيفًا رقميًا، ذلك أنها تخضع للانتقائية، ولا تشمل الوثائق كافة. لذا يظل الأرشيف العيني المصدر الأوثق والأكمل الذي يلزم الرجوع إليه.
تغدو مهمة أرشفة ذاكرة الفنون البصرية العربية في الوقت الراهن مهمة مزدوجة. فهي تشكل هذه الذاكرة، وتسد ثقوبها، وتجيب على الأسئلة المطروحة من جهة؛ وهي من جهة أخرى، تؤسس لتاريخ فعلي ودقيق لهذه الفنون، مسلطة الضوء على شخصية الفنان ومواقفه السياسية والاجتماعية والثقافية، كما على طبيعة عمله واشتغاله، وغيرها من الأمور ذات الأهمية البالغة في مقاربة تجربته الفنية. كما أنها تمنح الشرعية للطابع الثقافي والحضاري للفنون التشكيلية، وللتجربة الفنية للفنانين خارج الطابع التجاري الذي يغدو طاغيًا بعد وفاتهم. فولوج بعض الأسماء العربية من قبيل محمود سعيد، والغرباوي، والمليحي، ونجا مهداوي، وغيرهم، لدور المزاد العالمية الكبرى من قبيل كريستيز وسوثبايز، إذا كان يمنح عيانية عالمية للفن العربي الحديث والمعاصر، فإنه يؤكد من جانب آخر الطابع المستعجل لهذه الذاكرة الأرشيفية التي تجمع شتات حياة هؤلاء الفنانين. بل إن الأرشيف يكون أحيانًا مصدرًا ناجعًا لمقاومة الأعمال المزيفة، وللكشف عن انتحالها. فظاهرة التزييف التي استشرت تتطلب هي أيضًا تاريخًا متينًا يسمح بالفصل ما بين الحقيقي والمزيف، ويساعد في بناء الكاتالوغ المعقلن الذي يجمع أعمال الفنان التي أنجزها في حياته…
هل يكفي، إذًا، أن نقول عاليًا بأنها مهمة مستعجلة، في وقت ما زال الاهتمام فيه بالتاريخ الثقافي قائمًا؟ وهل سيكفي أن نقول بأن الطابع السائل واللحظي والزائل، الذي تقودنا في متاهته الثقافة البصرية والرقمية الحالية، بقدر ما يسهل التوارث وتداول الأرشيف بقدر ما يهدد وجوده؟ بل هل سيكفي هنا أن نقول إن تاريخ الفنون التشكيلية لا يمكنه أن يتشكَّل بشكل راسخ إلا انطلاقًا من الأرشيف باعتباره ذاكرة حية؟