تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » «الكوفي التربيعي».. الهندسة تداعب البصر

«الكوفي التربيعي».. الهندسة تداعب البصر

 

رغم أن الخط الكوفي، وخاصة ما يُسمى بالكوفي التربيعي هو أكثر الخطوط العربية صلة بالهندسة، وأكثرها سهولة للتنفيذ على آلة الكمبيوتر، فإن إتقانه والتجديد فيه يتطلب موهبة ودراية عميقة بتقنيات الخط العربي الأصيل، وهو ما يشكل تحدياً حقيقياً للمشتغلين عليه، إلا أن من بين الخطاطين من أثبتوا أن الإبداع في هذا النمط الخطي يكون أفضل عندما تستخدم فيه الأدوات اليدوية والموهبة البشرية، ومن هؤلاء الخطاط اللبناني وليد نصّوح الداية.

يتميز الداية بإتقانه الخطّ الكوفيّ التربيعي، الذي يوليه اهتماماً أكثر من غيره من الخطوط، ويثبت الكتاب الذي ألّفه بعنوان «الخط الكوفي التربيعي» مدى تعمقه في دراسته وإحاطته بخصائصه ومميزاته، التي جعلته شغوفاً به إلى حد كبير، فهو خطّ هندسيّ بامتياز، يستلزم استخدام المسطرة، والقلم، لما يجب أن يكون عليه شكل النص المخطوط به من استقامة كُلية، دون أي انحناء أو تقوُّس، حيث تغلب عليه الزوايا القائمة، سواء في تحديد الحروف، أو في تحديد الفراغات، وتتناسق خطوطه من حيث السمك، ويتساوى في التباعد، وهو ما جعله منتشراً في تزيين العمارة الإسلامية منذ القدم، إذ يكسبها جمالاً وأبّهة في المظهر، ورغم ما يبدو عليه من مرونة ووضوح وسهولة، فإنه يتطلب وجود موهبة حقيقية لكي يتسّم بالدقة والجمال، ويُقدَّم فيه الجديد المختلف، كما فعل الداية في هذه اللوحة.

جمالية هندسية
اختار الداية للوحته جزءاً من نص الآية 53 من سورة الزمر، التي يقول فيها الله جلّ جلاله: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ﴾، وهي آية يبشر فيها الخالق عباده بأن لا ييأسوا من رحمته، فيُلقوا بأيديهم إلى التهلكة، ويقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت، فلا سبيل لإزالتها ولا صرفها، وبسبب ذلك يبقون مصرين على العصيان، ويزيدون في ما يغضب عليهم ربهم، بدل السعي إلى معرفته بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، فهو الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وشملت مغفرته الذنوب جميعاً، بكبائرها وصغائرها، كما أن رحمته تفريج للكروب في الدنيا ورفع للبلاء وتيسير للأمور.

«الكوفي التربيعي».. الهندسة تداعب البصر

اجتهد الخطاط الداية في تطبيق الخصائص الجمالية والهندسية للخط الكوفي التربيعي في كتابة نص لوحته وتنفيذها، فكتب اللام ألف بحرفين مستطيلين نحو الأعلى، للتنبيه على نطقها تأكيداً للنهي الدالة عليه، ولتحقيق تشكيل بصري بارز في الآن نفسه، ثم أتبعها بالفعل«تقنطوا» الذي منحه مساحة كبيرة في اللوحة، وصممه على شكل متاهة طويلة، ليدل على أن القنوط ما هو إلا انحراف عن سبيل الحق والهداية المفضي إلى الرحمة، ثم كتب حرف الجر «من» أعلى بداية «تقنطوا» وتحت كلمة «رحمة»، للدلالة على الخروج من تلك المتاهة قبل التوغل والضياع فيها، والنظر بدلاً من ذلك إلى الأمل المتربع في الأعلى «رحمة» من الخالق، ولذلك اختار لكلمة «رحمة» ذلك الموضع البارز والشكل الواضح، ثم أكمل بكتابة اسم الجلالة «الله»، الذي أدخل شكله في مستوى «تقنطوا» للدلالة على أن الله هو المخلّص من تلك المتاهة بهدايته لعباده، فهو القائل: ﴿مَن يَهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِ﴾، فالهداية رحمة، والقنوط منها لا يُجير منه إلا قوة الإيمان بالله.

دِقّة
إن تمكن الداية من هذا الأسلوب الخطي جَلِيّ في الشكل الذي تظهر به اللوحة، من خلال الدقة الهندسية في أبعاد الحروف واستقامتها وتناسقها، واستغلال المساحات، وتوظيف النقاط في الأماكن المتطلبة لذلك، والاقتصار على الزوايا القائمة في كل الكلمات، إلى غير ذلك من السمات البارزة في تصميم اللوحة.

كما كان اختياره للألوان موفقاً، فكتابة اللوحة باللون الأبيض المحايد دلالةٌ على ما يدعو إليه نص اللوحة من صفاء للقلب، وتنقية له من الذنوب والكروب، فيما كان استخدامه للونين الباردين الأزرق والأخضر؛ على تَدَرُّجِهما دلالةً على ما يجب أن يتوفر في الراغب في رحمة الله من انسجام وصدق مع الذات وإخلاص في عبادة الخالق.

فمن خلال كل تلك التوظيفات المتنوعة، وذلك التنفيذ المتقن، استطاع الداية إبراز الخصائص الجمالية التي يتمتع بها هذا الأسلوب الخطي البديع، ليمنح اللوحة جمالية مبهرة، تجعل المشاهد يسبح بمتعة بصرية في عوالم الخط العربي الجميل.

ولد الداية سنة 1960، وبدأ الاهتمام بالخط العربي في مراهقته، حيث نشأ في مدينة طرابلس الشهيرة بروّاد الخط، فكانت معالمها الأثرية المزينة بالخط العربي مصدر إلهام له، وشجعه والداه على ضرورة إجادة كتابة الخط الذي كان من أساسيات المنهج التعليميّ للبلاد في تلك الفترة، كما كان للمدرّسين دور كبير في شحذ موهبته، من خلال إجادتهم للخط وترغيب التلاميذ في إجادته والتميز فيه، فواصل ممارسته حتى نضجت تجربته، وظل الخط بالنسبة له نمط إبداع وحرفة عيش، فصار من أهم الخطاطين في بلاده، فهو الآن عضو في نقابة الخطاطين اللبنانيين، وعضو في الهيئة التحكيمية لمسابقة جماليات الخط العربي السنوية التي تطلقها جامعة الجنان في لبنان، وقد شارك في العديد من التظاهرات الخطية، وقد حاز درعاً وشهادة تقدير من الجامعة اللبنانية؛ اعترافاً بدوره في تطوير الخط العربي المعاصر، وله مساهمات عديدة في خدمة الخط الكوفي.