تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أوجاع ومعاناة المرأة الريفية اليمنية تشكل العمق الإنساني في أغاني الفنان عبدالباسط عبسي

أوجاع ومعاناة المرأة الريفية اليمنية تشكل العمق الإنساني في أغاني الفنان عبدالباسط عبسي

صوت الحنين والكاذي وهزات الشجون

 

محمد المخلافي
عندما نكتب عن عبد الباسط عبسي، لا نتحدث عن فنان عادي، بل عن ظاهرة فنية فريدة من نوعها. يبرز عبد الباسط ككيان فني يمتد إلى ما هو أبعد من مجرد أداء سطحي. إنه تجسيد حقيقي لروحه الداخلية، حيث يمتزج الفن مع الحياة، والصوت مع الروح.
عندما يبدأ بالغناء، لا يكتفي بترديد الكلمات والألحان فحسب، بل ينقل كل جزء من كيانه إلى صوته. عيونه الحالمة، قلبه النابض، عقله المتوهج، وكل خلايا جسده المرتعشة، تُسكب في كل نغمة يطلقها. يحول كل شرارة من الطاقة والإحساس الكامن داخله إلى موسيقى جميلة تنبع من أعماق روحه.

تآلف الفن والروح
هذا التآلف التام بين الفن والروح هو ما يجعل أداءه فريدًا وبالغ التأثير. فالموسيقى ليست مجرد وسيلة للتعبير لديه، بل هي تجسيد حقيقي لذاته، وانعكاس صادق لكل مشاعره وأحاسيسه. وبذلك تصبح كل أغنية من أغانيه عملاً فنيًا ذو طابع شخصي وعميق، ما يتيح للمستمع الغوص في أعماق نفس الفنان وتجربته الإنسانية.

إيحاءات الريف وصوت الطبيعة
منذ طفولته المبكرة، هناك في قريته الصغيرة العالقة في إحدى قمم جبال الأعبوس جنوب تعز، كان مُولعًا بالأغاني الشعبية، ومهتمًا بها حتى أصبحت فيما بعد تجربة غنائية رائدة ارتبطت بمدينته تعز وأهلها. بدأت مسيرته الفنية الحقيقية مع أول أغنية له “وا قمري غرد”، والتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفنية المميزة لتلك المدينة.
هذه البداية المبكرة مع الغناء الشعبي المرتبطة بمنشأه كانت بمثابة البذور التي ستنمو وتتطور لتصبح جزءًا أساسيًا من شخصيته الفنية والإبداعية. فالتزامه بإبراز الطابع المحلي في أغانيه لم يكن مجرد اختيار عابر، بل نابع من ارتباطه العميق بتراث وهوية تلك المنطقة التي ينتمي إليها.

بهذه الطريقة، تمكن عبد الباسط عبسي من خلق صوت فني فريد، يجمع بين الأصالة المحلية والعمق الإنساني العام، ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة في المشهد الفني اليمني. فأغانيه ليست مجرد أداء موسيقي بحت، بل هي تعبير حقيقي عن هوية وثقافة مدينة تعز.
فرض الفنان عبد الباسط عبسي نفسه على الساحة الفنية بقدرات استثنائية وموهبة. وصفه الدكتور سلطان الصريمي عام 2003 عند تكريمه في مؤسسة العفيف الثقافية بأنه “ولد مكتملاً”، ما يعكس تميزه وتفرده منذ البداية.
مع وفائه للبيئة الريفية التي احتضنت طفولته، برز صوت عبد الباسط عبسي كشاهد على جمال وثراء الحياة الريفية. فقد استمد أنغامه الشجية من موسيقى عصافيرها ومهاجل رجالها وأغاني نسائها، ليعكس في مسيرته الغنائية عمق ارتباطه بجذوره الريفية.
قضايا المرأة في أغانيه

كان صاحب الصوت العذب الأكثر وضوحًا في الدفاع عن قضايا المرأة الريفية المظلومة. أدرك أن مسيرة التنوير والتقدم في اليمن لن تكتمل ما لم يتم الاستماع إلى هموم هذه المرأة و النظر الى معاناتها. فكان يمثل مع مجموعة من الشعراء الشعبيين أصواتًا إنسانية صادقة تنادي بالعدالة والكرامة للمرأة في الريف.
فيما يخص الأغنية اليمنية والعربية بشكل عام، كان محور الكتابة غالبًا ما يرتكز حول المرأة، سواء من حيث الحب والعشق والتغزل بجمالها، أو الشكوى من فراقها وما يرتبط بذلك من مشاعر عاطفية بحتة.
ومع ذلك، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ظهرت في اليمن أعمال غنائية تناولت قضايا المرأة من منظور أوسع، تأخذ في الاعتبار إنسانيتها الكاملة. وقد لاقت هذه الأعمال انتشارًا واسعًا واستمر تأثيرها حتى يومنا هذا.
من بين تلك القضايا، هناك اثنتان تم تناولهما في أغانٍ أداها الفنان عبد الباسط عبسي، وامتازت هذه الأغاني بطابعها القصصي التراجيدي.

في المجتمعات المحافظة، قد يتم إجبار الفتيات على الزواج في سن مبكر من رجال أكبر منهن سنًا، وذلك بدافع الفقر والحاجة المادية. في هذه الحالات، قد تتحول الفتاة إلى نوع من الجواري اللائي يتم بيعهن دون موافقتهن المسبقة.
هذا الواقع المؤلم ينطوي على العديد من المشكلات الاجتماعية والنفسية. فالزواج القسري في سن مبكر ينتهك حقوق الفتاة الأساسية في الاختيار والكرامة الإنسانية. كما أن الفجوة الكبيرة في السن بين الزوجين قد تؤدي إلى علاقات غير متوازنة ومملوءة بالتوتر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفتاة المجبرة على البيع كجارية تتعرض لخطر الاستغلال والإساءة.
الأغنية الأولى من كلمات الشاعر محمد المقطري، بعنوان “يومه ظلمني أبي”:
وقالت البنت:
يُمّه ظلمني أبي

واهدر شبابي لشيبه

ألا بالذهب فاز بي

وآني بقلبي

عصافير الهوى تختبي

تشتاق روضة صِبا

جنة صبية صبي

لمو أبي باعني

يُمّه لدنيا العذاب

وسيَّب أزهار عمري

تظمأ وتشرب سراب

واني صبيه على

درب المحبة شباب

وازهار نيسان بس

يُمّه تُهدى لشاب

إلى الجحيم البيس

اللي تبيع النفوس

تكفن الشائب الفاني

بأحلى عروس

وفي وجوه الفوارس

ترسم ظلال العبوس

تسقي البنات النواعس

يُمّه أمر الكؤوس

 

تروي الأغنية “يُمّه ظلمني أبي” قصة حزينة لفتاة تم بيعها من قبل والدها مقابل المال والذهب. يظهر من خلال الأغنية أن هذه الفتاة كانت تحلم بحياة مليئة بالحب والسعادة، لكن بدلاً من ذلك أُجبرت على الزواج من رجل عجوز مقابل المال.
تبدأ الأغنية بالفتاة وهي تشكو إلى والدتها عن الظلم الذي لحق بها على يد والدها، الذي باعها مقابل الذهب والمال. وتصف شعورها بالحزن والأسى، إذ تشعر وكأن “عصافير الهواء” قد اختبأت داخل قلبها، مما يوحي بأنها فقدت حريتها وبهجة الحياة.
وتستمر الفتاة في وصف معاناتها، إذ تقول إنها تشتاق إلى “روضة صبا” وإلى “جنة صبية وصبي”، مما يدل على أنها كانت تحلم بحياة زوجية سعيدة تملؤها المحبة والرومانسية.

وفي نهاية الأغنية، تعبر الفتاة عن غضبها من والدها الذي باعها مقابل “الفلوس”، والتي تكفن الشيخ الفاني “بأحلى عروس”، في إشارة إلى أنها اضطرت للزواج من رجل عجوز من أجل المال. وتشير إلى أن هذه الفلوس “تبيع النفوس”، مما يؤكد على أنها رأت في هذا الزواج خيانة لروحها وذاتها.
في مجمل الأغنية، نلاحظ صوت فتاة محطمة الأحلام ومكسورة القلب، التي تعاني من قرار والدها البائع وتتمنى لو عاشت حياة مليئة بالحب والسعادة بدلاً من الاضطرار للزواج من رجل عجوز من أجل المال. وهذه القصة الحزينة تعكس معاناة الكثير من الفتيات اللواتي يتم بيعهن وإجبارهن على زيجات قاسية مقابل المال والمصالح المادية.

أداء يجسد إنكسار الروح
في هذه الأغنية، نلاحظ أن صوت الفنان عبد الباسط يبدأ بهدوء وألم عندما تصف الفتاة معاناتها وحزنها على وضعها المؤلم. وتصبح نبرات صوته أكثر حزناً وانكساراً عندما تتحدث عن كيف باعها والدها للدنيا المليئة بالعذاب، وترك أزهار شبابها تذبل وتموت عطشاً.
ومع تطور الأغنية، يزداد صوته حزناً وألماً، ويغمض عينيه كأنه يشعر بمعاناتها بكل وجدانه. فنبراته الحزينة تعكس المرارة والألم الذي تعيشه الفتاة المسلوبة الإرادة والمجبرة على الزواج من شيخ بعمر جدها.
وفي النهاية، يصل صوته إلى ذروة الحزن والألم عندما تصف الفتاة كيف تحول المال إلى وسيلة لشراء الأرواح. فنبرات صوته تعبر عن رفضه واستنكاره لهذا الواقع المؤلم.
طوال الأغنية، يغني عبد الباسط عبسي بكل شغف ووجدان، وكأنه يعيش تلك المعاناة بنفسه، مما يجعل أداءه مؤثرًا وقادرًا على لمس مشاعر المستمع.
الأغنية الثانية بعنوان “مسعود هجر”، من كلمات الشاعر الدكتور سلطان الصريمي:
واعمتي منه شيقول لمسعود

في عامنا الأول رزقنا مولود

مسعود هجر وخلف المتاعب

والبعد طال وزادت المصاعب

من قلة المصروف وكثرة الدين

بكر مسافر فجر يوم الاثنين.

وقت الوداع سلم وقال مودع

لا تحزني شاشقي سنة وشارجع.

شافارقك بعد الزواج بأسبوع

العين تدمع والفؤاد موجوع.

شاتذكر الحنا وحمرة الخد

شاتذكر الزفة واليد باليد.

واليوم لا مكتوب ولا صدارة

وعود خلي كلها خسارة.

مرت سنين والقلب مسكن الدود

ما حد درا أين الحبيب موجود.

واعمتي كيف البصر لحالي

ضاع الشباب وطالت الليالي.

قوتي القليل من الشقا مع الناس

البأس أكل وجهي وشيب الرأس.

وا عمتي إبني هلك من الجوع

الحب زلج وأني مريض مفجوع.

رك النظر وجرحوا السواعد

وكم شيكون صبري وكم شاجاهد.

مقدرش عاد أشقی ولا أقدر أسأب

ولا أقدر أتمهر ولا اطحن الحب.

شهرين مريض ما حد ظهر يراني

الله يسامح الذي بلاني.

حرقتني لا تبكي يا محمد

الموت أفضل للفقير وأسعد.

أبوك نسی الحنا وحمرة الخد

وأني الوفا لحدي والموت يشهد.

وصيتي يا ابني تكون شهادة

بأن أبوك أحرمني السعادة.

لكن مسامح قد يكون معذور

وربما هو الأخير مقبور.

———————————————–

بلا شك، تصف هذه الأبيات المغناة الواقع المرير الذي تعيشه المرأة اليمنية في ظل غياب زوجها، الذي يُضطر للاغتراب بحثًا عن الرزق. فالزوج المغترب قد يبتعد عن أسرته لفترات طويلة، مما ينعكس سلبًا على حياة زوجته وأطفاله.

في هذه الحالة، تضطر المرأة لتحمل أعباء المعيشة والعمل في الحقول أو الخياطة وتربية الماشية لسد احتياجات الأسرة. بالإضافة إلى ذلك، تعاني المرأة من انقطاع أخبار زوجها المغترب، مما يزيد من معاناتها النفسية والاجتماعية.
ولا تجد المرأة في ظل هذا الواقع المرير سوى الاستجداء من أسرة زوجها، معبرة عن حزنها وألمها. ولكن في المقابل، قد ينظر المجتمع إليها نظرة سلبية إذا أبدت تمردها على الأوضاع القائمة وسعت للبحث عن حياة أخرى. فالمتوقع منها أن تنتظر عودة زوجها دون أن تفكر في خيارات جديدة لحياتها.

أصالة الإنسان الريفي
هذا هو الفنان عبد الباسط عبسي، فنان يفيض تواضعًا وبساطة، تجده في المناسبات محاطًا بأجواء من الألفة. ملامح وجهه تعكس أصالة الإنسان الريفي، وذلك من خلال ملابسه وشكله ولهجته. وعندما تقترب منه وتبدأ الحديث معه، تجد أنه يتحدث بهدوء ويمنحك فرصة للحديث والنقاش دون أن يقاطعك. الجلوس معه هو فرصة تمنحك الغوص في أعماق الفن اليمني.
تجربته الفنية تتجاوز الأداء الموسيقي، إذ تعبر عن رحلة عميقة تعكس انتماءه لقضايا إنسانية هامة. من خلال أغانيه، يتناول قضايا المرأة وما تواجهه من معاناة، مما يضفي بعدًا إنسانيًا على فنه ويجعل صوته مؤثرًا في المجتمع. إن ارتباطه بجذوره الريفية وتأكيده على الطابع المحلي في أعماله يمنح صوته مكانة مميزة في الساحة الفنية اليمنية، ويعكس عمق الثقافة والتقاليد.
تظل أغانيه إرثًا فنيًا خالدًا، تحمل بين طياتها مشاعر وأحاسيس جميلة لدى كثيرا من الناس، مما يرسخ مكانته كواحد من أبرز الفنانين في اليمن الكبير.
كاتب يمني