تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » جابر رزق.. ابتكار اللحن في حضرة الدين

جابر رزق.. ابتكار اللحن في حضرة الدين

جابر رزق.. ابتكار اللحن في حضرة الدين

 

جمال حسن
تمثل موشحات جابر رزق (1842-1905) الدينية أحد الجوانب الخفية للسيرة الغنائية اليمنية، فإليه تعود أقدم ألحان يمنية معروفة باسم مؤلفها. والصورة النمطية عن حدوث انقطاع لحني في اليمن تكمن في اعتبار أن كل ما وصل إلينا من التراث يعود إلى زمن غائر في القدم. كما أن الأسلوب العام للأغاني التقليدية يتخذ سياقاً يصعب فصله زمنياً عن بعضه. غير أن ألحان جابر رزق تمتلك خصائص تفردت فيها عن الغناء التقليدي المعروف، جعلته صاحب بصمة واضحة من خلال الموشحات الدينية التي تُنسب إليه شعراً ولحناً.

منذ وقت مبكر بدأت ميول الشيخ جابر رزق الغنائية، حد أنه خرق التقليد المُتبع في الإنشاد الديني الشائع بصنعاء، وتعلم العزف على القنبوس. تشير بعض المراجع إلى أن الأمير أحمد بن فضل العبدلي المعروف بالقُمندان، تعلم على يد رزق العزف على القنبوس. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ذاعت براعة الشيخ جابر في الموسيقى التقليدية. وبحسب ما أشير إليه لم تقل مقدرته عن سعد عبدالله أشهر المغنين التقليديين في صنعاء وقتها، والذي قُتل أثناء محاولته الهرب من الاضطهاد للمغنين بعد خروج الأتراك نهائياً من اليمن، وكخاتمة للحكم العثماني في الأستانة.

في الواقع لا نعرف الكثير عن تلك الفترة المضطربة العائدة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي عاش فيها جابر رزق، وبلغ صراع الأئمة فيها حداً لم يجعل صنعاء تستقر على حال واحد، وهي الفترة التي أفضت لسيطرة الأتراك على صنعاء. لعل المغنين في صنعاء وقعوا تحت قسوة الاضطهاد الديني خلال الوضع السياسي المضطرب الذي لم يستقر لحاكم. ويبدو أن الشيخ جابر تمتع بحرية لممارسة شغفه الفني، وصقل معارفه في الغناء التقليدي. لكن تلك الأجواء شكلت امتداداً لاستقرار ملامح غنائية بمعنى أن صنعاء كانت أكثر تسامحاً إزاء الغناء، بينما التشدد ازداد غلواً في المحيط القبلي والريفي الذي جاء منه جابر.

شكل جابر رزق نقطة التقاء بين الغناء الصنعاني التقليدي، وبعض السمات الشعبية التهامية، وطرائق الإنشاد الصوفي الشائع هناك.

وما إن سيطر الأتراك على صنعاء حتى أصبح جابر موظفاً معهم، والأرجح أن تعلمه ونبوغه الموسيقي ساهم في حضوره، وربما كان أيضاً لتلك العلاقة بين الغزاة الأجانب والموسيقيين سبباً في تعميق التشدد ضدهم. لكن جابر وجد حماية تتمتع بها انشغالاته الفنية من الحضور التركي، وحين عينه الأتراك في الحديدة كانت شهرته تسبقه في تلك الأوساط. وفي الطرائق المعروفة للغناء الديني شكل جابر نقطة التقاء بين الغناء الصنعاني التقليدي وبعض السمات الشعبية التهامية، وبعض طرائق الإنشاد الصوفي الشائع هناك، وهذا التلاقح مده بالجرأة لخرق بعض التقاليد الراسخة في الغناء اليمني عموماً والصنعاني خصوصاً.

على أن جابر رزق لم يكن مجرد حالة انقطاع في المشهد الغنائي اليمني الذي واجه مراحل قمع عديدة وتحديداً في صنعاء، إنما شكل امتداداً لتفاعلات غنائية ستأتي لاحقاً في القرن العشرين، وإن تشكل بعضها بمعزل عن تأثيره المباشر. ففترة وجوده في لحج ساهمت بصورة ما في حضور القُمندان. حتى وإن كانت المقولة بأن القُمندان تعلم عنه عزف القنبوس غير مؤكدة، وإن حظي باستضافة في البلاط العبدلي الذي ظلت ذائقته ملتصقة بالغناء الصنعاني، قبل أن تصبح ثورة القُمندان الغنائية انسحاباً من هيمنة مركزية سياسية وغنائية شكلتها صنعاء طويلاً.

في هذا السياق، يعود تأثير جابر رزق من خلال الاستثناء الذي التصق بألحان موشحاته في انتسابها إلى ملحن معروف، وبصرف النظر إن كانت تعود إليه أو لا. ما يعزز أنها ألحانه، فلكونها أيضاً ظلت ملتصقة بأشعاره، كما أن المتصوفة الذين انخرط رزق في طرقهم حافظوا عليها وساهموا بنشرها. وربما التسجيل الذي يعود لإبراهيم الماس لموشح “عالم السر منا” يكاد يكون الأقرب إلى الصورة العامة للحن الموشح، أي الطابع العام الذي زاوج بين الغناء الديني في صنعاء وأساليب الغناء الصوفي.

يبدو أن جابر رزق بنشأته الدينية احتمى بإطار يقيه أي صورة للتأنيب، وكرس كل إبداعه في الغناء الديني.

تقيد الماس بمساحة الصوت الشائعة في الغناء اليمني التي لا تتعدى الأوكتاف والنصف، لكن ربما جرى كسر تلك العادة في الغناء الصوفي. والموشح من مقام الراست يتسم بطابع أكثر لحنية تعمل على تصعيد الخشوع لذروته في خاتمة الجملة الأكثر غنائية، والتي من المحتمل أنها كانت تُصاحب بالمجموعة ما لم تنتهِ بصلوات نمطية اعتادت الحلقة على ترديدها، وتبدو الخلايا المجزأة بتواصل بين أشطار البيت مع إيضاح مفرداته، وربما كان هذا النسق مرتبطاً بنظم الشعر ضمن تصوره للحن، أو حتى إن كان أخذ اللحن من مكان ما.

تعود الموشحات المنتسبة لجابر رزق إلى صيغة دينية، وهذا يدعونا للتساؤل حول ما إن كان أدلى بدلوه في وضع ألحان غناء غزلي. ويبدو أن جابر رزق بنشأته الدينية احتمى بإطار يقيه أي صورة للتأنيب، وكرس كل إبداعه في الغناء الديني. وبحسب الروايات يُقال إن مفتي المراوعة عبدالباري الأهدل، وفي رواية أخرى محمد بن أحمد عبدالباري الأهدل، نصحه بالإقلاع عن الغناء بمصاحبة القنبوس والتوجه إلى الإنشاد فقط، وكما سرده جابر علي أحمد في “تيارات تجديد الغناء في اليمن” نقلاً عن تحقيق الرديني لأحد دواوين جابر رزق.

يدعونا الأمر إلى التساؤل ما إن كانت هناك ألحان غزلية تعود إلى جابر رزق اختفت أو أنه شهد شكلاً من التطهير بحيث لم يعد صحبه يعترفون بتلك الأغاني. ربما نتساءل أيضاً عن لحن “يا مكحل عيوني بالسهر” واستخدامه الاستثنائي لمقام “النوا أثر”، وهو مقام خالٍ من ربع الصوت وغير شائع في الغناء الصنعاني، ما إن كان يعود لجابر رزق، خصوصاً وأنه وظف في موشحة “يا مالك المُلك” باستخدام إيقاع عربي هو “المصمودي”؟ بمعنى أن رزق تعرف عليه من خلال احتكاكه بالأتراك. وهذا مجرد تساؤل من منطلق إلقاء ضوء على مسيرة جابر رزق، وملامح الغناء اليمني التي عرفت بعض المؤثرات ولكن موروثها تعرض للضياع نتيجة القمع.

يشير جابر علي أحمد إلى السمة التعبيرية التي صاغها جابر رزق في توظيفه الإيقاع، وتحديداً في كسره القاعدة الشائعة في الغناء التقليدي باستخدام إيقاع واحد، وهو التلوين الإيقاعي الذي سيصوغه في الموشحة المذكورة سابقاً بمقام الراست، في نسج الإيقاع العربي مع الإيقاع المحلي بين السؤال والجواب.

لا نستطيع التأكيد على حضور الملامح التعبيرية كلياً، مع أنه ربما اهتدى إليها بنوع من السليقة، وتحديداً في الإنشاد الديني، مبتكراً نسيجاً لحنياً يرمي إلى بلوغ الحالة الوجدانية والتعبير عنها.

يمكن ملاحظة جانب تعبيري في لحنه الأشهر وهو موشح “دع ما سوى الله” من مقام الحسيني المتفرع من البيات، لينتقل مباشرة في ثاني نغمة أربع درجات نغمية أي من “دو” الجواب في غناء “دع” إلى “فا” الجواب في “ما سوى الله”. وللعلم فإن درجة “فا” الجواب هو آخر الأوكتاف والنصف الذي تتيحه آلة القنبوس في الغناء التقليدي، وكما لو كان تعبيراً عن اعتماده الكامل على الله. لكن الأرجح أن هذا المدى التعبيري لم يتسم بمنهجية انتقلت إلى الغناء العربي المتأثر بالموسيقى الأوروبية. فالموسيقى اليمنية لم تتح أي ملامح تنظير سواء في المقامات أو الإيقاعات أو أي جوانب شكلية، واعتمدت كلياً على النقل.

في موشح “ربّ حسّن المختم”، والذي وظف فيه مفردات تهامية، يعتمد على درجات منخفضة؛ طبيعة النظم أيضاً تؤثر على طبيعة اللحن، وتميل أكثر إلى الصيغة الصوفية. ففي “دع ما سوى الله”، نلاحظ سمة غير التماثل في البناء السلمي للحن، لكنه أكثر تماثلاً في موشحه “رب حسن المختم”، على رغم التباين الأكثر وضوحاً في طول الخلايا اللحنية. هل كان أيضاً هناك أثر من احتكاكه بالأتراك في الصيغة اللحنية، أو بالشوام الذين عملوا مع الأتراك في اليمن؟ وهذا يعيدنا إلى مصدر استلهامه إيقاع “المصمودي الكبير”. هكذا تبدو صيغة جابر رزق كمرحلة استكشاف مبكرة لإمكانية التجديد في الغناء اليمني، وإن ظلت مقيدة ببيئة محلية منعزلة وأكثر تقليدية، ومناخ غير متسامح للغناء. لكنه أعاد النشيد في قالب الغناء والعكس، واستحضر النشيد المتصوف بالتجاور مع التواشيح الصنعانية.

نقلا عن منصة “خيوط”