تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » عندما تسببت “موناليزا” دافنشي في اعتقال أبولينير وبيكاسو

عندما تسببت “موناليزا” دافنشي في اعتقال أبولينير وبيكاسو

 

لوحة “الموناليزا” التي تعد الأشهر في العالم سرقت بالفعل. والغريب في الأمر هنا هو أن الشاعر الذي كان ملء السمع والبصر في باريس الثقافة في ذلك الحين غيوم أبولينير ومعه صديقه الشاب بابلو بيكاسو كانا أول المشتبه فيهم!

هذه حكاية حدثت بالتحديد في الـ20 من أغسطس (آب) 1911 لتقيم الدنيا ولا تقعدها ليس في باريس وحدها بل في أوروبا من أقصاها إلى أدناها. حكاية يمكن في نهاية الأمر حسبانها كواحدة من تلك الغرائب التي علمت تاريخ اللوحة الأشهر في تاريخ الفن التشكيلي في العام أجمع: “الموناليزا” أو الجوكوندا التي أتت سرقتها في ذلك اليوم بالذات لتكذب ما كان قد صرح به قبل ذلك اليوم بعام كامل مدير متاحف فرنسا المدعو ثيوفيل هومول، في جوابه على صحافيين سألوه عما إذا كان يمكن القول إن هذه اللوحة يمكن أن تسرق ذات يوم تاركة مكانها على أحد أبرز جدران متحف اللوفر خالياً كما كان يحدث لعديد من اللوحات الأخرى في متاحف متنوعة في زمن كانت “تكنولوجيات” جديدة قد جعلت سرقة معروضاتها تتكاثر. حينها ابتسم المسؤول الرسمي، على عادة المسؤولين الرسميين في كل مكان وزمان ليقول: “الموناليزا تسرق؟ هذا سابع المستحيلات. سيبدو الأمر وكأن برجي كاتدرائية نوتردام قد سرقا!” والذي حدث يومها هو أن الواقع وكما يفعل عادة كذب ما قاله المسؤول الحكومي ليفقده ابتسامته طوال ما يقارب سنتين. فاللوحة التي تعد الأشهر في العالم سرقت بالفعل. والغريب في الأمر هنا هو أن الشاعر الذي كان ملء السمع والبصر في باريس الثقافة في ذلك الحين كان أول المشتبه فيهم! وربما لن نعرف أبداً لماذا.

بيكاسو على خطى أبولينير

لقد اعتقل غيوم أبولينير يومها ليبقى معتقلاً أياماً عدة ثبت خلالها أنه لم يكن هو الفاعل. غير أن صديقه الرسام الإسباني، الشاب في ذلك الحين، بابلو بيكاسو، سرعان ما اعتقل بعده لكنه بدوره أطلق سراحه بعد أيام وراحت الشرطة تبحث عن مشتبه فيهم آخرين كان في مقدمهم سكرتير أبولينير البلجيكي المدعو جيري – بياريه الذي كان معروفاً من قبل الشرطة الباريسية بأنه كان معتاداً على دخول قاعات متحف اللوفر ليسرق من مقتنياتها بعض التحف الصغيرة بين الحين والآخر، وهو الذي كانت الشرطة تعرف أن ليس له غاية مما يفعل سوى الحصول على بعض الشهرة. ويبدو أنه بالغ في تطلعه هذه المرة إذ تقول الحكاية إنه ما إن تناهى إلى سمعه أن الشرطة تبحث في الأوساط التي يرتادها عن السارق المحتمل حتى هرب من مكان إقامته وعمله مع حرصه على أن يبعث إلى الشرطة رسالة “يعترف” فيها بأنه هو نفسه الفاعل. غير أنه حين اكتشف خطورة الأمر وأن الشرطة جادة في كشف الحقيقة وهي تعد بمعاقبته عقاباً شديداً حتى بعث إليها رسالة أخرى يبرئ فيها نفسه معترفاً بنزقه، مؤكداً بالأدلة القاطعة بأنه لم يفعل سوى أنه اخترع الحكاية برمتها. لذا استنكفت الشرطة عن ملاحقته لكنها لم تتخل عن متابعة بحثها. ولقد توصلت، ولكن بعد فترة طويلة إلى فك طلاسم ذلك اللغز.

ذريعة وطنية مخادعة

فلقد تبين لها في نهاية الأمر أن السارق إنما هو تاجر عتائق إيطالي الأصل يعمل في حانوت مجاور للوفر ويدعى فنتشينزو بيروجيا. وكان بيروجيا هذا، حين انكشف أمره في النهاية قد أعلن أن دوافعه لارتكاب ما فعل إنما كانت دوافع وطنية. إنه غاضب من سرقة الآخرين تحف بلده وآثارها والقطع العديدة من ممتلكات متاحفها وقصورها ولا سيما من قبل نابليون بونابرت الذي حين احتل مناطق ومدناً إيطالية عديدة إبان احتلاله هذا البلد “المظلوم” نهب في طريقه عدداً هائلاً من اللوحات و”من بينها الموناليزا التي كنت أزورها كل يوم تقريباً في اللوفر فأحزن وتنهمر دموعي أمام مرآها هناك وقد حرم منها الوطن!”. قد يبدو هذا كله مثيراً للإعجاب بل منطقياً ويمكن أن يشفع لبيروجيا لولا أن ثمة هنا تفصيلاً لا يمكنه أن يكون قد فات ذلك الوطني المتحمس. ففي الحقيقة أن لوحة “الموناليزا” ومن بين التحف والأعمال الفنية الرئيسة التي نهبت من إيطاليا. لم يكن وجودها في فرنسا نتيجة لأي نهب أو افتئات على حقوق إيطاليا. فالمعروف في حقيقة الأمر أن ليوناردو دا فنشي حين انتقل نهائياً ليعمل ويعيش في فرنسا تحت كنف وفي حمى الملك الفرنسي فرانسوا الثالث حيث بقي هناك حتى موته، كان قد حرص على أن ينقل معه إلى منفاه الجديد لوحة “الموناليزا” نفسها التي كان قد أنجزها منذ عام 1505 في مدينة فلورنسا بتوصية – في واحدة من حكايتين تتعلقان بجذور هذه اللوحة – من الثري الإيطالي تاجر الأقمشة المعروف حينها فرانشيسكو ديل جوكوندو كنوع من التحية من هذا الأخير لزوجته الحسناء ليزا غيرارديني – ومن هنا عرفت بالجوكوندا كما عرفت بموناليزا – بينما تفيدنا حكاية أخرى تقل عن تلك الأولى صدقية، بأن اللوحة إنما رسمت بتوصية من جوليان دي مديتشي وفي هذه الفرضية سيظل الغموض إلى الأبد محيطاً بالهوية الحقيقية لتلك المرأة التي لا تزال الأشهر في العالم منذ ما لا يقل عن نصف ألفية من السنين.

خطأ تاريخي فادح

ومهما كان من الأمر هنا، حين وسعت الشرطة الفرنسية من دائرة تحقيقاتها حول سرقة بداية القرن الـ20، وجدت نفسها تواجه السارق بما يدحض دوافعه الوطنية المعلنة ولكن ليس هذه المرة انطلاقاً من كون اللوحة غير مسروقة بل هي ملك مشروع لفرنسا، ولكن من منطق أكثر راهنية: فإذا كان دافعه وطنياً حتى وإن بني على خطأ تاريخي يمكن في نهاية الأمر غفرانه… لماذا تمكن مزور للوحات كان ناشطاً ومشهوراً ويعمل بين فرنسا وإيطاليا في ذلك الحين، من أن يبيع خلال الأسابيع التي تلت سرقة اللوحة ست نسخ منها تمكن من إنجازها وتوزعت مقابل مبالغ طائلة على العدد نفسه من مشترين كان يخيل إلى كل واحد منهم أنه يشتري اللوحة المسروقة فدفع وتكتم على الأمر، في وقت ازداد فيه طمع السارق الذي سيتبين أنه كان شريكاً لذلك المزور الذي يدعى إدواردو ديفالفييرنو، ازداد طمعه إلى حد أنه هرب باللوحة الأصلية الحقيقية بعد حين إلى إيطاليا وهو يأمل في أن يجد مشترياً من نوع آخر لها. ولقد كان من سوء طالع بيروجيا أنه حين عثر على مشتر محتمل للوحة، وهو تاجر عتائق مثله، وجد هذا الأخير نفسه يتصل من فوره بالسلطات التي وجدت نفسها في مواجهة اللوحة التي كان قد مضى عامان على غيابها.

عندما تسببت "موناليزا" دافنشي في اعتقال أبولينير وبيكاسو

إذاً وصلت حكاية السرقة إلى خواتيمها السعيدة، لكن الأوساط الفنية تمكنت من خلالها من أن تضيف فصلاً آخر إلى فصول الحكايات الغريبة والغامضة التي ما برحت منذ قرون تثير علامات الاستفهام والتعجب من حول تلك اللوحة، التي كان بعدها الفني وحده كافياً لأن يحقق لها شهرة كبيرة. فإذا كنا قد ذكرنا في فقرات سابقة كيف أن الغموض لا يزال إلى اليوم يكتنف ظروف رسم اللوحة وشخصية الموديل المرسومة، فإن ما يبقى في حاجة إلى توضيح إنما هو السبب الذي جعل الرسام يحتفظ باللوحة ويصطحبها إلى منفاه الفرنسي على رغم أن ثمة إجماعاً على أن لها من أوصى برسمها سواء كان تاجر الأقمشة أو جوليان مديتشي. وهنا يتدخل تاريخ الفن في التوضيح المرجح. يقول لنا هذا التوضيح إن الطرف الذي أوصى على رسم الموناليزا، لم ترقه النتيجة. فالبورتريه جاء أكثر طليعية من أن يتم قبوله في ذلك الزمن. إذ من نواح عديدة لن تبدو السيدة المرسومة متطابقة مع ما يتوقع من سيدة محترمة أن تكون. فهي تبتسم مما يتعارض مع وقار مفترض، والسيدة مؤطرة في جلستها وهو ما لم يكن مستساغاً وكذلك فإن ملابسها قاتمة اللون فيما يجب أن تكون زاهية تعبيراً عن ألق الحياة… وذلك بحسب دراسة أكاديمية استعنا بها في بعض تفاصيل هذه المقال وهي كانت نقلت العناصر الفنية عن مؤرخ الفن الشهير في القرن الـ20 دانيال آراس الذي يبدو أن مسعاه الرئيس كان يتمثل في فك ألغاز عمل فني كان ويبقى عصياً على ذلك.