تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الفنان أيوب طارش عبسي يجسد صوت الشعب وتاريخه العريق

الفنان أيوب طارش عبسي يجسد صوت الشعب وتاريخه العريق

"ما احلى هواك"

 

محمد المخلافي
على مدى سبعة عقود، أضاء نجم الفنان أيوب طارش عبسي سماء الفن اليمني، ليصبح رمزًا يجسد روح الشعب وتاريخه العريق. يتميز صوته الجذاب بقدرته الفائقة على نقل مشاعر الأرض التي نشأ فيها، مما جعله جسرًا يربط بين الأجيال من خلال أغانيه الجميلة التي تتناول مواضيع تتعلق بالأرض والإنسان.
غنى عن الزراعة والثورة والجمهورية والوحدة، وغنى للحب، حيث صدح صوته في كل أرجاء اليمن، من سهولها الخصبة إلى جبالها الشاهقة ورمالها الذهبية. أصبحت أغانيه نبضًا حيًا في قلوب كل اليمنيين، تتجاوز حدود الألحان لتجسد روح الشعب والوطن في كل كلمة.

عند الاستماع إلى أغانيه التراثية، نشعر نحن اليمنيين وكأننا نعود إلى جذورنا وإلى بساطة الحياة في أريافنا وقُرانا. منذ بداياته، استطاع أيوب تكوين رابط عميق مع جمهوره، حيث تعكس أغانيه تفاصيل حياتهم ومعاناتهم وآمالهم، مما يجعله جزءًا لا يتجزأ من هويتهم الثقافية.
في خضم الضجيج الذي يحيط ببلادنا، يبقى صوت أيوب طارش عبسي هو الصوت الجامع لكل أطياف الشعب، مخلصًا لوطنه ولشعبه، ليظل رمزًا للفن الذي يوحدنا ويعبر عن مشاعرنا وآمالنا.

حياة أيوب الفنية والمهنية
وُلِد أيوب عام 1941 في قرية المحربي، الواقعة في عزلة الأعبوس جنوب تعز. في تلك البيئة الخلابة، كان يقضي أيامه في رعي الأغنام على سفوح الجبال. كان صوته العذب يصدح في أحضان الطبيعة، يتناغم مع زقزوقة العصافير ونسمات الهواء، مما غرس في قلبه حبًّا عميقًا للموسيقى والغناء.
في عام 1953، انتقل إلى مدينة عدن، التي كانت تمثل بوابة جديدة لأحلامه. هناك، أكمل دراسته وحصل على الشهادة الثانوية من المعهد العلمي الإسلامي، وكان أحد أبرز معلميه العلامة المجتهد محمد بن سالم البيحاني. كانت هذه المرحلة نقطة تحول حاسمة في مسيرته التعليمية، حيث أتاح له ذلك استكشاف عوالم جديدة من المعرفة والثقافة.
منذ صغره، كان لديه شغف بالغناء، وقد ساهم أخوه محمد طارش في تحويل هذا الشغف إلى واقع ملموس من خلال كتابة كلمات أول أغانيه “بالله عليك وامسافر”. هذه الأغنية، التي بُثت عبر إذاعة تعز عام 1956، لم تكن مجرد نغمات، بل كانت صرخة تعبر عن معاناة المغتربين وتلامس قلوب الكثيرين، مما جعلها تترك بصمة لا تُنسى في الذاكرة الجمعية.

بعد فترة من الانتقال إلى تعز، بدأ حياته المهنية كموظف في شركة الطيران اليمنية. ورغم انشغاله بالعمل، لم يغفل عن حلمه الفني، حيث استمر في تقديم الأغاني التي كانت تُبث عبر إذاعة تعز وأشرطة الكاسيت. ساهمت هذه الجهود في توسيع شهرته وجعلته أحد الأسماء اللامعة في الساحة الفنية اليمنية.
في عام 1974، اتخذ خطوة جريئة بالسفر إلى القاهرة لدراسة الموسيقى في معهد الموسيقى العربية، حيث قضى عامين في التعلم وتوسيع آفاقه الفنية. كانت هذه المرحلة بمثابة تجديد لأسلوبه، حيث أضاف أبعادًا جديدة لتجربته الفنية، مما أثرى مسيرته بمؤثرات موسيقية متنوعة.
بعد عودته إلى تعز، استأنف حياته العملية في البنك اليمني للإنشاء والتعمير، ورغم انغماسه في العمل، لم يتخلَّ عن شغفه بالموسيقى.

بين دعم الزوجة ورفض الأب
أيوب هو تجسيد حقيقي للإنسان الأصيل، إذ استطاع أن يوازن بين الأهل وولاء الوطن. فهو الزوج المحب والأب الحنون، بالإضافة إلى كونه فنانًا يفيض شغفًا بفنه وعشقه لشعبه ووطنه. في إحدى اللقاءات، تحدث أيوب عن دعم زوجته، التي كانت دائمًا تشجعه على تطوير موهبته، وتحرص على إبعاد الأطفال عن أجواء انشغاله عندما يكرس وقته لتلحين كلمات جديدة.
كانت تحتفي بإنجازاته، مما ساهم بشكل كبير في تعزيز ثقته بنفسه منذ بداياته. لم يكن دعمها مجرد كلمات، بل كان يتجسد في أفعالها اليومية، حيث كانت تعد له وجباته المفضلة وتساعده في تنظيم وقته بين العائلة والفن.
على الجانب الآخر، كان موقف والده، رحمه الله، مختلفًا تمامًا. فقد عارض بشدة توجهه نحو الفن، وعندما بدأ أيوب خطواته الأولى، كان مضطرًا للابتعاد عن أنظار والده، الذي لم يغير رأيه إلا بعد فترة طويلة.

نموذج للتكامل بين الشعر والفن
العلاقة بين الشاعر الراحل عبد الله عبد الوهاب نعمان، المعروف بالفضول، والفنان أيوب طارش تُعتبر واحدة من أجمل الثنائيات الفنية التي حفرت اسمها في الذاكرة اليمنية. فقد تجسدت موهبتهما في مجموعة من الأعمال الغنائية الخالدة، مثل “لك أيام”، و”طاب البلس”، و”مكانني ظمآن”، و”دق القاع”، و”قلبي يسائلني عليك”. ومع كل هذه الروائع، يظل النشيد الوطني للجمهورية اليمنية هو الأبرز، حيث يعكس عمق الشراكة الفنية التي جمعتهما.

رغم أن أيوب تعاون مع العديد من الشعراء، إلا أن اسم الفضول يظل الأكثر ارتباطًا بمسيرته. عندما يُذكر أيوب طارش، يتبادر إلى الذهن اسم الفضول، مما يدل على التلاحم العميق بينهما في قلب الفن اليمني. لم يكن هذا التعاون مجرد تناغم بين فنان وشاعر، بل كان تجسيدًا حقيقيًا للتكامل بين موهبتين، حيث نمت علاقتهما في مدينة تعز خلال فترة ازدهار اليمن بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر.

شعلة النضال التي لا تنطفي
هاهو سبتمبر قد اطل علينا قبل أيام ليذكرنا بالذكرى الثانية والستين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر. ها هو صوت أيوب يصدح في أرجاء البلاد، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، ليحيي ذكرى هذه الثورة العظيمة في قلوب كل اليمنيين.
من بين الأناشيد الوطنية التي غناها أيوب بثورة 26 من سبتمبر، “دمت يا سبتمبر التحرير يافجر النضال” من كلمات الشاعر عباس الديلمي:

دمت يا سبتمبر التحرير

يا فجر النضال

ثورةٌ تمضي بإيمان

على درب المعالي

تسحق الباغي

تدك الظلم

تأتي بالمحالي


هدم الشعب السجون

ووكور المجرمين

ومضى يحمى العرين

تظل ذكرى هذه الثورة حية في قلوب كل اليمنيين، تجسد إيمانهم بالتغيير والحرية، وتلهم الأجيال القادمة في مواصلة المسير نحو النضال.

كيف ألهم حلم أيوب لحنًا خالداً للنشيد الوطني

في مسيرته الفنية، غنّى أيوب حوالي 25 أغنية وطنية كما ذكر في أحد لقاءاته عبر قناة البلقيس، لكن من أبرز أعماله كان النشيد الوطني الذي بدأ كأغنية لإحياء ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. استلم أيوب هذا النشيد من فرقة المظلات في الجيش، وكانت مهمته تلحينه. قضى أسبوعًا كاملًا في تحسين لحنه والتدرب على أدائه، لكنه واجه صعوبة في أحد الأبيات التي تقول “في خطى الواثق تمشي قدمي”. رغم رضاه عن اللحن ككل، كان هذا البيت يفتقر إلى لمسة جديدة.
تعمق أيوب في تفاصيل اللحن حتى وقت متأخر من الليل. بينما كان يغط في النوم، راوده صوت همس له بلحن مبتكر. وقال له: “أيش رأيك بهذا اللحن؟” استيقظ أيوب على التو، ونهض من على فراشه وأخذ العود وبدأ يدندن ليجد أن حلمه قد منحه الحل الذي كان يبحث عنه.

متحمسًا، توجه أيوب إلى مبنى وزارة الإعلام، لكنه صُدم عندما علم أن نشيد “رددي أيتها الدنيا نشيدي” قد قُدّم بالفعل للفنان السنيدار، الذي كان قد أجرى بروفات عديدة. شعر بالإحباط بعد أن بذل جهدًا كبيرًا دون أن يحقق نتيجة.
لكن الحظ ابتسم له فجأة، حيث طُلب منه تقديم النشيد أمام اللجنة التقييم. وبفضل عزيمته وموهبته، تم قبوله.

في عام 1982، كان أيوب يتدرب في معهد الفنون بعدن على بعض الأناشيد الوطنية، بما في ذلك “رددي أيتها الدنيا نشيدي”. خلال إحدى الحصص، حضر الرئيس علي ناصر واستمع إلى أدائه. أعجب بالأداء والكلمات، وطلب منه اختيار بعض الأبيات لتكون نشيدًا وطنيًا. قال له أيوب إنه لشرف له أن يقوم بذلك. في تلك اللحظة، وصله خبر وفاة رفيق دربه، الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان، الذي كتب كلمات النشيد الوطني. اضطر أيوب للسفر إلى تعز للمشاركة في العزاء الذي استمر أربعين يومًا.
بعد انتهاء فترة العزاء، سمع أيوب عبر إذاعة عدن أن نشيد “رددي أيتها الدنيا نشيدي” قد تم اعتماده رسميًا كنشيد وطني لليمن الجنوبي. كانت لحظة لم يكن يتوقعها، وكان ذلك تتويجًا لجهوده وتعبه.
وعندما اتحد شطري اليمن الشمالي والجنوبي تحت اسم الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو عام 1990، أصبح نشيد “رددي أيتها الدنيا نشيدي” نشيدًا وطنيًا لليمن الكبير.

هذا هو أيوب طارش عبسي، سيظل رمزًا للفن اليمني الأصيل، يجسد مشاعر وأحلام الشعب ويعكس تاريخه العريق. من خلال أغانيه، استطاع أن ينقل القيم والتراث، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية لليمن. إن صوته، الذي يصدح في كل زاوية من البلاد، سيظل جسرًا يربط بين الأجيال ويعبر عن آمالهم، مؤكدًا أن الفن قادر على توحيد القلوب وتجسيد الروح الجماعية للشعب اليمني.
كاتب يمني