مصطفى راجح
الشعوب مثل الأفراد تماماً، لها زمن طفولتها، ومراحل تتقد فيها روح الشباب وجموحه، وفترات هبوط وانحطاط تظهر فيها شائخة، وطاقاتها مستنزفة، وكل ما فيها آيل إلى النضوب والفناء.
دورات الزمن هذه تتكرر عبر التاريخ، متأثرةً بأحوال الأمة، إندماجها وتلاحمها، وصعودها وهبوطها في سُلم النمو والحضارة والإنجاز والحضور في ميادين الحياة.
فترة اتقاد اليمن بدأت بثورتي سبتمبر وأكتوبر في ستينات القرن الماضي. كان إعلان قيام الجمهورية في 26 سبتمبر أشبه بميلاد اليمن الجديد. تدفقت اليمن كأنها حبست أنفاسها لزمن طويل بانتظار ذلك اليوم.
الفنّ، دوناً عن غيره من المجالات، كان بانتظار هذه اللحظة الفارقة التي فصلت ما بين زمنين، زمن ماضٍ يمنع الغناء ويحْرِمهُ من روافد بقائه وازدهاره، وزمنٍ آتٍ أطلق فن الغناء اليمني من دوائره المُغلقة، ووفر له بيئة خصبة للبروز في الهواء الطلق والفضاء العام للبلاد المتحفزة للحياة الجديدة.
لم يخلق سبتمبر الفن من العدم؛ هو اكتفى ببث روح الحياة في المجتمع اليمني، ورفع الحظر عن أهم فن غنائي عربي وأكثره ثراءً: فن الغناء اليمني.
كانت الثورة والجمهورية هما رافعة الفن في الستينات والسبعينات. لقد نقلتا نبض اليمنيين في الحقول والوديان والجبال والسواحل والسهول إلى مدى أوسع انتشارا، وبصيغة فنيّة واكبت زمنها وأعادت خلق الألحان القديمة، وأضافت عليها وطوّرتها، وابتكرت ألحاناً وأناشيد جديدة متكِئة على روح جديدة، استنهضت إحساس اليمني وتوْقه للحياة، وطموحاته للتعبير عن نفسه بالفنّ، كما في السياسة والثقافة والفكر.
فناني الستينات والسبعينات انتموا لروح الجمهورية وزمنها السبتمبري، حتى أولئك الذين لم يكن لهم مساهمات بارزة في الأناشيد الوطنية.
فنانون وشعراء عديدون انتموا للجيش الوطني والتوجيه المعنوي والإذاعة وبقية المؤسسات الإعلامية والوطنية.
إضافة إلى توفر مناخ خصب لإبراز الغناء التراثي اليمني وتجديده، ولدت الأغنية الوطنية لأول مرة في تاريخ اليمن في سبتمبر 62؛ أناشيد وأغانٍ تمجد اليمن وتستنهض هويته الوطنية وتاريخه العريق، في تعبيرها عن الزمن الجديد بعد ثورة سبتمبر وقيام الجمهورية.
لم تمنع حرب السنوات الثمان بين الجمهوريين والملكيين من تأسيس الفِرق الموسيقية، وتطوير إذاعة صنعاء، وتأسيس إذاعة تعز والحديدة، وبروز الفنانين في الأناشيد الوطنية والأغاني اليمنية بتراثها المتنوع والمتعدد؛ لتصل إلى مسامع الناس عبر الإذاعات الرسمية في صنعاء وتعز والحديدة.
في قائمة الأسماء، التي عملت في إذاعة صنعاء، ستجد أبرز رموز الثقافة والفن في اليمن: محمد علي الربادي، عبدالعزيز المقالح، عبدالله البردوني، علي السمة، أحمد السنيدار.
ساهم الموسيقار فضل محمد اللحجي، الذي جاء إلى صنعاء قادما من لحج، في تأسيس الفرق الموسيقية في صنعاء وتعز والحديدة، إذ كان يجيد العزف على عدة آلات موسيقية إضافة إلى العود، الآلة الرئيسية لدى الفنانين اليمنيين.
في صنعاء كان تواجد فضل اللحجي لا غنى عنه في تشكيل فرقة موسيقية ضمت أبرز الفنانين الشباب آنذاك؛ أحمد السنيدار، ومحمد حمود الحارثي، ومحمد قاسم الأخفش، وحمود زيد عيسى.
“جيشنا يا جيشنا .. جيشنا يا ذا البطل”، كانت من الأناشيد الوطنية الأولى، وهي من كلمات وألحان الفنان علي الخضر، وأداء الفنان علي الآنسي.
هذه الأنشودة كانت فاتحة الألق الوطني للفنان علي الآنسي، إذ أبدع سلسلة من الأناشيد والأغاني الوطنية، وكان يغني إلى جانب الجنود أيام حصار السبعين.
سأكتفي هنا بذكر أهم أغانيه الوطنية، وفي ذروتها قصيدة البردوني الشهيرة “اليوم يا تاريخ قف”، التي أداها الفنان علي الآنسي بمشاركة الفنانة نجاح أحمد، ولاحقاً أنشودة “نحن الشباب”؛ وهي من كلمات الشاعر محمد المطاع.
وحدة اليمن تجلت آنذاك في مشاركة الفنانين القادمين من عدن ولحج في نغمة اليمن الجديد في صنعاء.
الفنان محمد مرشد ناجي كان في صدارة الحدث حينها بعد قدومه إلى صنعاء وإحيائه حفل عيدالثورة في سبتمبر 1963، إذ شارك بأغنيته الشهيرة “باللاه عليك يا طير يا رمادي”، وأنشودة “شعبي ثار اليوم”، وأغنية “يا نجم يا سامر فوق المصلى.
الفنان علي السمة شخصية قيادية، هذه السمة تضاف إلى كونه فنانا كبيرا. تذكرت حكاية الفنان أيوب طارش أثناء لقائه الرئيس علي ناصر محمد. في عدن عام 1982 عندما أبلغه عن اختيار “رددي أيتها الدنيا نشيدي” نشيدا وطنياً للدولة في عدن. وكيف انبرى الفنان علي السمة مسانداً ومؤكداً على أهمية دعم أيوب والاهتمام به.
عاد علي السمة إلى اليمن بعد الثورة، وعمل في إذاعة صنعاء، ثم في إذاعة تعز،
وأبدع عدداً من أبرز الاغاني الوطنية، تأتي “الباله” في مقدمتها.
هي ملحمة كتبها الشاعر مطهر الإرياني، وأنطقها الفنان علي السمة بلحن كأنه خلق ليكون نغمتها، وأداها مستلهماً تاريخ اليمني، اغترابه وعذاباته، وحنينه لوطن كلما اقترب منه نأى مبتعداً عنه.
بعد “الباله” تأتي في النسق الرفيع نفسه أغنيات: فوق الجبل، يا قافلة عاد المراحل طوال، يا حبيبة يا يـمن.
في العام 1968، أدى الفنان إبراهيم طاهر الأغنية الوطنية المشهورة «أنا يمني» في احتفال الذكرى الرابعة لقيام ثورة سبتمبر 1962؛ من كلمات الشاعر إبراهيم صادق، التي تُعد من أبرز الأغاني الوطنية اليمنية.
من عاصروا تلك الفترة يقولون إن هذه الأغنية كانت تُعزف يوميا في نهاية الطابور المدرسي في مدارس صنعاء، ويدخل الطلاب إلى صفوفهم على وقعها.
فترة الحمدي شكلت خصوبة النشيد والأغنية الوطنية، إذ كان يلتقي بنفسه بالفنانين والشعراء على سبيل المثال: أيوب طارش، أحمد المعطري، عثمان أبو ماهر، ويشجعهم ويصطحبهم معه في زياراته للمحافظات في مواسم التشجير والأعياد الوطنية.
يكفي هنا أن نتذكر أن الأغنية الوطنية الأهم “رددي أيتها الدنيا نشيدي”، التي أصبحت لاحقاً النشيد الوطني لجنوب الوطن ودولة الوحدة اليمنية في 22 مايو، رأت النور في تلك الفترة التي أخصب فيها الفن وازدهرت الأغنية الوطنية، في مناخ منتشي بالأمل والطموح والروح الوطنية العالية.
الأغنية الوطنية أخذت مساحة واسعة بين أغاني الفنان أحمد المعطري الذي بدأ الغناء نهاية الستينات.
يتذكر المعطري أنشودته الأهم “يميناً بمجدك يا موطني” في مقابلة صحفية له قبل عامين قائلاً:
“كانت علاقتي كبيرة بالرئيس إبراهيم الحمدي، في البداية أناشيدي اشتهرت في حركته، حتى إن ‘يمينا بمجدك يا موطني’، لم يكن يذاع من إذاعة صنعاء إلا في عيد ثورة سبتمبر، فقط، لكن من يوم حركة الحمدي 13 يونيو أُطلق نشيد ‘يمينا بمجدك يا موطني’، وأكثر الناس حينها افتكروا إنني أعدت هذا النشيد خصيصاً لحركة الحمدي”.
لا أحد أنشد لليمن مثل أيوب طارش.
حنجرة سبتمبر وصوتها الخالد هو.
أول أنشودة وطنية لمعلم الأغنية الوطنية أيوب طارش “بلادي بلادي .. بلادي اليمن، أحييك يا موطني مدى الزمن”، أداها نهاية عام 1965، وهي من كلمات وألحان الشاعر علي سيف العبسي.
بعدها تدفق سيل أناشيد وطنية من نبع وجدان الفضول الخصب، ونغمات أيوب وصوته الشجي وأوتار عوده الرنانة. لا مجال لحصر أناشيد أيوب وأغانيه الوطنية هنا، إذ أنها تكاد أن تكون من البديهيات في وجدان اليمنيين.
باختصار يمكنني، مطمئناً، المجازفة بالقول هنا إن الوطنية اليمنية تعرفت على نفسها بصورتها الأكثر وضوحا وبهاءً في صوت أيوب.
لا أدعي هنا أنني قدمت صورة كاملة عما فعله سبتمبر بالأغنية اليمنية، وما تزامن مع مولده من أناشيد وطنية، وما يتضمنه سجل طويل من إبداعات الفنانين اليمنيين، والفن الغنائي عموما في المرحلة التي ابتدأت من يوم إعلان الجمهورية في 26 سبتمبر 1962.
حسبي هنا أنني حاولت تصفّح سجل غنائي خصب، كلما عدتَّ إليه أهتز وجدانك بالحنين، وخفق قلبك على وقع أمل كبير، كان ذات يوم يرفرفُ في أعالي الروح، تماماً مثلما كانت رايات اليمن ترفرف خفاقةً في أعالي الجبال.
نقلا عن موقع قناة “بلقيس”