تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » كرامة مرسال… رسول الشعراء والملحنين إلى الطرب

كرامة مرسال… رسول الشعراء والملحنين إلى الطرب

كرامة مرسال... رسول الشعراء والملحنين إلى الطرب

 

جمال شنيتر
50 عاماً فناً استطاع خلالها الفنان الحضرمي الكبير كرامة مرسال أن يرسم خطاه بعبقرية الأداء وعذوبة صوت وشجن عميق في خريطة الفن والطرب، مقدماً نموذجاً متفرداً لرسالة الغناء.

في الذكرى الـ10 لرحيل الفنان الغنائي الحضرمي كرامة مرسال تعود إلى أذهان جمهوره العريض أغنيته الخالدة “منذ ربع قرن يا ربان السفينة” التي تربعت قائمة أغانيه خلال مسيرته الفنية التي امتدت لنحو نصف قرن. ولعل شهرة تلك الأغنية التي هزت عدن ومحافظات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الجنوبية وكتبها الشاعر الراحل حسين المحضار، تعود إلى أنها أخذت تفسيراً سياسياً لتزامنها مع أحداث عصفت بدولة جنوب اليمن السابقة التي انتهجت الاشتراكية.

أما تلك الأحداث فتعود إلى أكتوبر (تشرين الأول) 1987 حين شهدت عدن احتفالات ضخمة في مناسبة ذكرى ثورة أكتوبر لتحرير جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني، وتزامنت تلك الاحتفالات مع نشوة الانتصار الذي حققه الطرف المنتصر في حرب القبائل الماركسية خلال يناير (كانون الثاني) 1986، بعد هزيمة الفريق الموالي لرئيس البلاد حينها علي ناصر محمد ونزوحهم إلى عاصمة دولة اليمن الشمالي صنعاء، بعدما أودت تلك الحرب بحياة 10 آلاف شخص.

وعن تلك الاحتفالات والأغنية، قال الرئيس السابق لجمهورية اليمن الجنوبية السابقة علي ناصر محمد، “أتذكر أنه عام 1987 غنى كرامة مرسال في المسرح الوطني بعدن بعد مغادرتي السلطة أغنية يا ربان السفينة، وخاطب فيها القيادة السياسية الجديدة في جمهورية اليمن الديمقراطية وذلك في مناسبة مرور نحو ربع قرن على قيام ثورة أكتوبر، وهي لم تكن قصيدة وحسب بل قصيدة داخل قصيدة، وفسرها البعض من القيادة أنها تتحدث عنهم، وآخرون فسروها على أنها تشير إلي، والمعنى في بطن الشاعر وقلبه، مما دفعهم إلى إيقاف بث تلك الأغنية بعد الحفل كما حدثني بذلك أحد الحاضرين المشاركين في ذلك الحفل الذي أرسل إلي وأنا في صنعاء تسجيلاً لذلك الحفل بعد 48 ساعة، والأغنية من كلمات وإبداع الشاعر الكبير حسين المحضار”.

ومن أبيات هذه الأغنية الخالدة

منذ ربع قرن يا ربان السفينة، والريح يلعب بناء عاكمين عينه، حافظ على الخن يا حافظ على الماكينة، والخن وسطه ذهب وجواهر ومرجان، الله بنصرة معك أعطاك السكينة، رغم الخطر والسفر وأيامه المحينة، من عزة الله من ذا يقدر يهينه، دع عنك أهل السبب ما قالوه بهتان، والبر ما هو بعيد بس الصبر وينه، وأهل السفينة بشر ما هم طايقينه، طال السفر طولت وامتدت سنينه.

دلالات فنية

يلفت الناقد الفني صالح الفردي في حديثه إلى “اندبندنت عربية” إلى “أن الأغنية حملت دلالات رمزية عميقة وضعها المحضار وترجمها مرسال بصوته الشجي وأسلوبه المميز بعد الأحداث التي عصفت بالجنوب في ما سمي بأحداث يناير المشؤوم، وهنا ذهب كثير من المحللين والمهتمين بالأغنية المحضارية إلى إسقاطها على الواقع السياسي آنذاك، وأكثر التأويلات ذهبت إلى قيادة ما بعد يناير التي دانت لها التجربة السياسية بعد أعوام من العواصف الشديدة، كان الحضارم يتربعون على هرم القيادة المنتصرة إذ تولى قيادة الحزب الاشتراكي الحاكم علي سالم البيض ورئاسة الدولة حيدر أبو بكر العطاس، ومن هنا كان التفسير لقول المحضار منذ ربع قرن يا ربان السفينة، والسفينة هي الوطن أو التجربة النضالية والربان هم قادة تلك الفترة، لذا آن الأوان أن تقبض دفة السكان (المقود) إلى بر الأمان، ونلاحظ أن الأغنية وظفت بذكاء وعبقرية شعرية الألفاظ التي هي من جسم السفينة الوطن، فالخن هو غرفة تخزين البضائع الثمينة، والسكان هم مقود السفينة ليصبح المعنى منفتحاً على كل التفسيرات حتى يومنا هذا”.

رحلة البدايات

كانت الانطلاقة الأولى للفنان كرامة مرسال مع تباشير اليوم الأول من 1963 في مدينته المكلا التي أحبها كثيراً، فبزغ نجمه باعتباره صوتاً عذباً يمتلك نبرات شجية، وأداء متمكناً في العزف على آلة العود، ليصبح رسول الأغنية الحضرمية في نصف قرن مضى ومرساها الأصيل حتى اليوم.

ويشرح الناقد الفردي ذلك قائلاً “تزامنت بداياته والمكلا تودع العام الأخير في مهمة حياة وفن الفنان الكبير محمد جمعة خان، وتستقبل صوت مرسال الذي انطلق من حارة برع السدة، في حين كان صوت الفنان الكبير عبدالرب إدريس يتماوج شدواً وتطريباً من حافة البلاد أي حي الشهيد خالد بالمكلا، وانطلق مرسال يشجي عشاق الفن والطرب بدرر الغناء الحضرمي وروائعه لأكثر من 50 عاماً، كان فيها قامة سامقة وبازغة في سماء الفن والطرب في الوطن والجزيرة والخليج، وصوتاً لا يشبهه أحد، ومشواراً فنياً ثرياً تجاوزت موسوعته ألف أغنية توزعت على مجمل شعراء الأغنية الحضرمية قديماً وحديثاً وتأصيلاً وتجديداً، وسجلت بداياته حضوراً مميزاً عن بقية أقرانه من مبدعي ذلك الزمن الفني الحضرمي الأصيل، وفي المقدمة منهم الفنانون الكبار سعيد عبدالنعيم ومحمد سالم بن شامخ والموهبة الفذة ساعتئذ عبدالرب إدريس، لتسير رحلته الفنية في خضم هذا الثراء الإبداعي في كل مدن حضرموت ساحلاً ووادياً وهضبة وصحراء”.

مرسال وتراث المحضار الغنائي

كان للفنان مرسال النصيب الفني الوافر من روائع الشعراء الغنائيين الكبار في حضرموت، وزاده تألقاً وانتشاراً ورسوخاً وشهرة في مقدمة الفنانين انبثاق الظاهرة الشعرية واللحنية في مدينة الشحر، الشاعر العبقري حسين أبو بكر المحضار، ليجد المبدع مرسال مدداً غنائياً متنوعاً، ذا صبغة شعرية وجمالية وفنية ولحنية خاصة أسعفته في تثبيت أقدامه الفنية بين أقرانه من المبدعين، ولذا استحوذ على النصيب الأكبر من موسوعة الغناء للشاعر والملحن الكبير المحضار، فيكاد يكون قد تغنى بمجمل ما حملته دواوين المحضار الأربعة، التي صدرت في حياته، والخامس والأخير الذي صدر بعد رحيل أبي محضار.

وعلى رغم كثرة المنافسين له في تقديم هذا التراث الغنائي الموسوعي المحضاري، فإن مرسال تميز على الجميع في تقديمه وأدائه لروائع المحضار التي حملت كثيراً من الدلالات الرمزية السياسية التي نثرها الشاعر الكبير منذ مطلع السبعينيات حتى قبيل رحيله، ومن ذلك روائع (منذ ربع قرن يا ربان السفينة، والحب فيه المزلة والعفو عين الصواب، وقايس وعادك في النفس ماشي في الغبه مقاييس).

محطات مهمة في مشواره الفني

يتطرق الفردي إلى محطات حياتية وفنية مهمة في رحلة فن وعطاء وإبداع كرامة مرسال الذي ظل لـ50 عاماً يشدو بجميل الكلمات وأعذب الألحان، مقدماً ألواناً عدة من روائع الكلم، وعذب اللحن لشعراء الأغنية الحضرمية الكبار خلال خمسة عقود، وأعوام كان فيها الصوت الأكثر حضوراً وشهرة في المشهد الفني بمدن حضرموت وقراها وأريافها.

وتحكي رحلة مرسال الإبداعية أنه لم يدع رائعة غنائية جادت بها قرائح شعراء أغنية الدان الحضرمي الأصيل، إلا واقترب منها في أمسياته العرائسية وحفلاته في داخل الوطن وجولاته الفنية الخارجية، ليؤصل لها حضورها في ذاكرة الفن والأجيال بعذوبة صوت وإتقان عزف وروعة أداء وتطريب، من مثل رائعة الشاعر عبدالله أبي بكر التوي (ذا خرج فصل والثاني على الجور بانصبر)، وروائع شعراء الدان الحضرمي، وفي مقدمتهم عميد الدان الشاعر والملحن والفنان حداد بن حسن الكاف الذي أتحف هذه الموسوعة بدرر غنائية عدة كانت ولا تزال تعد من عيون الشعر والفن لفنون الدان، ومنها (يا رب سالك تخلي سرنا مكتوم، وبسألك يا عاشور عن حال البلد).

ملامح إبداعية

من الملامح الأدائية البديعة التي عرف بها الفنان مرسال، قدرته الجيدة وتمكنه الجم من إتقان مخارج الألفاظ للكلمات فصيحة وعامية، وحرصه على إيصال الجمل الشعرية بدقة متناهية وتفصيح لها، كي تؤدي رسالتها بقوة وعمق وتأثير، إذ كان مهيمناً على شمولية العمل الغنائي غناء وإيحاء وتعبيراً، وهناك ملمح آخر في تجربته الفنية إذ استطاع أن يخلق تواشجاً جميلاً بينه وبين جمهوره وعشاق فنه، سواء في قاعات المسارح أو سمار الأعراس، مشكلاً معزوفة فنية تنبثق من صميم العلاقة الحميمية التي يرعاها أثناء لحظات الإبداع، التي يجيد عزفها وقيادتها مع جمهوره بفن وتسام كبيرين، والمتأمل لرحلة فن المبدع الكبير كرامة سعيد مرسال، يجده انطلق في بدايته الفنية بكبار العازفين، الذين كانوا ضمن التخت الموسيقي للفنان الكبير الراحل محمد جمعة خان.

خريطة الفن والطرب

يقول يلفت الناقد الفني صالح الفردي، “50 عاماً فناً أو أكثر استطاع خلالها الفنان الكبير أن يرسم خطاه بعبقرية أدائية وعذوبة صوت وشجن عميق في خريطة الفن والطرب في بلادنا، مقدما نموذجاً متفرداً لرسالة الغناء، التي كان مرسالها رائحاً وغادياً في كل جغرافيا الوطن، ناثراً روائع كبار الشعراء، الذين وجدوا فيه خير مرسال ومعبر لشجونهم وآهاتهم ولواعجهم ومشاعرهم وعتابهم وأنينهم ونحيبهم وأشواقهم، فكان مرسال الفن الذي لم يخذلهم يوماً في كل طلة من إطلالته الفنية العابرة، لذا لن يجانبنا الصواب كثيراً حين نؤكد أن مسيرة فن المبدع كرامة سعيد مرسال لنصف قرن مضى كانت تمثل المحطات المهمة لعدد كبير من شعراء الأغنية الحضرمية، الذين جاءت انطلاقاتهم في منتصف ستينيات القرن الماضي، وكان مرسال هو المبدع الذي وضعهم بثقة وقوة على بساط الأغنية الحضرمية المعاصرة، وشكل معهم ثنائيات تكاد تتجاوز كل معاصريه”.

تجاوز المحيط الفني

ويؤكد الفردي أن التجربة الغنائية للفنان الكبير مرسال اتسعت لتتجاوز المحيط الفني الحضرمي لينسج عدداً من العلاقات الفنية التي جمعته بشعراء وملحنين مبدعين وبخاصة في مدينة الفن والجمال عدن، كما تسجل ذلك ذاكرة الفن ثنائيته بالملحن الموسيقار العدني أحمد باقتاده في رائعة الشاعر الغنائي الكبير سالم علي حجيري (خاب ظني في الذي ظنيت إني جزء منه أو بإنه جزء مني)، والأخرى (البحر يتقايس وأنت ما عرفنا لك قياس) من كلمات الشاعر الكبير أحمد رحيم بو مهدي. كما أن من ألحانه رائعة (أشهد الله إني عادنا فيك حبان) للشاعر الحامدي، ورائعة (لبيك يا موطني) للمربي التربوي والعالم الجليل الشيخ عبدالله بن أحمد الناخبي.

وتبقى تجربة الفنان الكبير كرامة مرسال تحمل كثيراً من الصفحات التي تحتاج إلى وقفات وعودة لتلك الرحلة التي كان فيها المبدع مرسال رسول الشعراء المحبين والملحنين العشاق لـ50 عاماً بتلك المشاعر الإنسانية العابقة بجماليات الكلمة الشعرية، والمحملة برقيق النغم واللحن الأخاذ.