ابراهيم العريس
نظرتان للموسيقي النمساوي أنطون بروكنر: نظرة قبل رحيله ونظرة بعد رحيله. والحال أن النظرة الثانية كانت الأكثر صواباً، خصوصاً أن المؤرخين والدارسين ربطوا بينه وبين شوبرت أكثر مما ربطوا بينه وبين فاغنر
في عام 1865 تجشم رجل في الـ41 من عمره مشقة الانتقال من مدينة فيينا في النمسا إلى مدينة ميونيخ الألمانية، من دون أن يكون قد وضع نصب عينيه سوى هدف واحد: حضور العرض الأول لأوبرا “تريستان وايزولت” لريتشارد فاغنر. كان فاغنر بالنسبة إلى ذلك الشاب مثلاً أعلى في عالم الإبداع الموسيقي، وهو لاحقاً سيهدي إليه سيمفونيته الثالثة اعترافاً بفضله عليه. ذلك أن الشاب كان موسيقياً لامعاً قبل رحلته إلى ميونيخ، وسيظل موسيقياً لامعاً بعد ذلك. وإذا كان هو ونقاده كذلك قد وجدوا في ذلك التبجيل الذي كان ينظر به إلى فاغنر مدعاة للاعتقاد أنه لم يكن سوى انعكاس للموسيقي الكبير ومقلد له، فإن العقود التالية من السنين ستكشف، ولكن بعد سنوات عدة من رحيل الموسيقي الشاب المتحمس، أنه لم يكن أبداً مقلداً لصاحب “تانهاوزر” بل إن موسيقاه شيء آخر تماماً، ولعلها أكثر روحانية وسمواً بكثير من موسيقى المعلم الكبير، خصوصاً أن الموسيقي الشاب لم تكن الأوبرا همه الأول، بل كرس جهوده وطاقته كلها للأعمال السيمفونية الكبيرة التي إذ ظلمت كثيراً خلال حياته، عادت الأجيال التالية وقدَّرتها تقديراً كبيراً.
نظرتان إلى مبدع واحد
ومن هنا صارت لدينا نظرتان لأنطون بروكنر (وهو اسم ذلك الموسيقي الشاب الذي نتحدث عنه): نظرة قبل رحيله ونظرة بعد رحيله. والحال أن النظرة الثانية كانت الأكثر صواباً، خصوصاً أن المؤرخين والدارسين عادوا وربطوا بينه وبين شوبرت أكثر مما ربطوا بينه وبين فاغنر. وهم، لئن أعطوا قيمة كبيرة – تعادل قيمة معطاة لبيتهوفن بالنسبة إلى البعض – لسيمفونياته، فإنهم بعد ذلك راحوا يتلمسون ضروب العبقرية الاستثنائية في ألحانه الدينية. ووجدوا في تلك الألحان عناصر ريفية وذاتية حملها معه بروكنر من طفولته وصباه. ومن هنا إذا كان تاريخ الموسيقى قد اعتبر بروكنر واحداً من كبار المؤلفين السيمفونيين في زمنه، فإنه نظر إليه أيضاً بصفته واحداً من أعظم مؤلفي الموسيقى الدينية. أما العمل الرئيس الذي يفكرون به حين يطلقون هذا الحكم فهو ألحان “المزامير” التي وضعها بروكنر خلال مرحلة طويلة من حياته: ذلك أن بروكنر لحن خمسة مزامير، أولها كان في عام 1852 وآخرها في عام 1892، أي قبل رحيله بأربع سنوات.
الشعراء كثر والملحن واحد
و”المزامير” التي نتحدث عنها هنا هي بالطبع تلك الأناشيد التي تشكل جزءاً من “العهد القديم” والتي تعرف في العالم المسيحي والعالم الإسلامي تحت اسم “مزامير داوود” مما يوحي بأنها من تأليف داوود، مع أن مؤرخي الأديان ينوعون عادة أسماء الذين تنسب تلك المزامير إليهم، إذ ينسبون إلى داوود 74 مزموراً منها، و12 إلى آصاف و11 إلى ابني قوريه، و2 إلى النبي سليمان، بل ثمة مزمور ينسب أيضاً إلى النبي موسى. المهم أن هذه المزامير فتنت الموسيقيين والشعراء كثيراً منذ فجر التاريخ التوحيدي، وكان أنطون بروكنر، بنزعته الروحية المبكرة واحداً من المفتونين بها. وهو إذ كان في الأصل يريد تلحين عدد كبير منها، فإنه في نهاية الأمر لم يلحن سوى خمسة مزامير. وكان المزمور الأول الذي لحنه بروكنر هو المزمور “22” الذي جعله يقدم من كورس مختلط مصحوباً بآلة البيانو… وعادة ما يعد النقاد هذا المزمور من الناحية الموسيقية ثانوي الأهمية. وفي المقابل يعطون أهمية كبرى إلى ثاني مزمور لحنه بروكنر وهو يحمل الرقم “114” وجعله لكورس مختلط وخمسة أصوات وثلاث آلات ترومبون. لحن بروكنر هذا المزمور في عام 1854 وكان في الثلاثين من عمره… وظهر منذ البداية غنياً بالابتكارات اللحنية، إذ يبدو الانتقال شديد البساطة والسلاسة بين المقاطع الهادئة ومقاطع أخرى تصل إلى درجة عالية من السمو. وبعد ذلك المزمور الذي أدهش عالم الموسيقيين وجعلهم يتنبهون إلى مواهب بروكنر، أتى المزمور “146” الذي تؤديه أصوات منفردة وكورس كبير وأوركسترا كبيرة في الوقت نفسه… وهو أتى عملاً ضخماً وجديداً من نوعه كشف عن أن مؤلفه يعيش حالة انتقالية روحية حقيقية، خصوصاً أنه أعطاه شكل الكانتاتا مع تكرارات تزداد صعوداً بين جملة موسيقية وأخرى وكأن المطلوب من الموسيقى هنا أن تصل إلى لحظات سمو كبرى.
لحظات سمو مطلق
ولقد لاحظ النقاد في هذا العمل، ومنذ تقديمه للمرة الأولى نوعاً من التركيز على التجديد في التوزيع الأوركسترالي. ولا سيما في المزمور الرابع في سلسلة بروكنر الذي يحمل الرقم “112” وجعله الموسيقي يقدم من كورسين منفصلين وأوركسترا، وهو أنجزه عام 1863، وبدا على الفور عملاً ناضجاً ذا تقنية أوركسترالية شديدة الحداثة، حتى وإن كان بعض النقاد قد رأى أن بروكنر غلب فيه التقنية على العفوية، مما وسم بعض اللحظات بطابع مادي بحت، أبعد العمل برمته من أن يتخذ ذلك الطابع الشخصي الذي كان قد طبع المزامير الثلاثة السابقة. أما المزمور الأخير الذي لحنه بروكنر، فكان ذاك الذي يحمل الرقم “15”، وقد لحنه الموسيقي – كما أشرنا – في عام 1892، جاعلاً منه آخر عمل ديني يؤلفه على أي حال. ويبدو أن وصول بروكنر في هذا العمل إلى لحظات السمو القصوى كان هو ما دفعه إلى عدم خوض التجربة من جديد، ذلك أن هذا المزمور الخامس، وصل فيه الأداء الموسيقي إلى ذلك المستوى الذي يقال معه إن المؤلف لم يعد في حاجة إلى مزيد لكي يثبت عبقريته. وثمة من بين النقاد من يقارن عمل بروكنر هذا، بالقداس الأخير الذي وضعه موتسارت، وببعض أهم الأعمال الدينية التي كتبها باخ وفيفالدي وغيرهما من كبار مؤلفي الأعمال الدينية في تاريخ الموسيقى!
الوصول إلى ذروة التعبير
إذاً، عرف أنطون بروكنر كيف يوصل موسيقاه في مزموره الخامس هذا إلى ذروة التعبير، في صورة بدا معها وكأن المزامير الأربعة الأولى لم تكن سوى تجارب خاضها الفنان على مدى عقود من السنين، حتى توصله إلى ذلك العمل الأخير. وحسبنا لإدراك هذا أن ننقل عن الاختصاصيين في موسيقى بروكنر كيف أن هذا الأخير غلف هذا المزمور كله بطابع من نشوة الفرح والانتصار منذ اللحظة الأولى التي يدخل فيها الكورس كله منشداً في صوت موحد محدثاً مفاجأة موسيقية مدهشة، حتى لحظات المزمور الأخيرة، حين يصرخ الكورس، وبصوت واحد أيضاً: ألا فليمجد الله كل من له نفس على وجه هذه البسيطة!
والحقيقة أن هذا العمل الاستثنائي الكبير أتى تتويجاً لحياة هذا الفنان، الذي ظل طوال سنوات حياته متواضعاً وبسيطاً، بساطة الريف الذي ينتمي إليه أصلاً، والذي ظل حتى سنواته الأخيرة يبدي أسمى آيات الاحترام للفنانين الذين سبقوه والذين قال دائماً إنه يشعر بدين كبير تجاههم. وبروكنر ولد عام 1824 ابناً لمدرس في قرية ريفية، مما وسمه منذ صغره بطابع ريفي لم يفارقه أبداً. وهو دخل عالم الموسيقى باكراً، في كنيسة سان فلوريان في النمسا، وطنه، ثم في معهد مدينة لينتس، قبل أن ينتقل إلى فيينا حيث بدأ فيها خطواته الأولى في مجال التأليف الموسيقي. أما اللحظة الانعطافية في حياته فستكون عند لقائه فاغنر وانضمامه إلى الحلقة المحيطة بفنان الأوبرا الكبير مما خلق سوء التفاهم الذي تحدثنا عنه. وفي عام 1865، إضافة إلى تكثيف مؤلفاته الموسيقية ولا سيما في مجال التأليف السيمفوني، بدأ بروكنر يدرس الموسيقى في فيينا التي لن يبرحها لفترات طويلة من الزمن حتى مماته… والحال أن بروكنر بسبب تواضعه ظل يعيش على الهامش حتى من بعد رحيله… فكان أن اكتشفه نقاد الموسيقى – والجمهور بالتالي – في صورة متأخرة، واكتشفوا خصوصاً إلى “مزاميره” سيمفونياته ولا سيما منها الرابعة والسابعة اللتان تعتبران من أجمل الأعمال الموسيقية التي كتبت خلال النصف الثاني من القرن الـ19.