تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » “هزيمة جيوش كسرى” جدارية ديلا فرانشسكا تؤسسس لحداثة الفنون

“هزيمة جيوش كسرى” جدارية ديلا فرانشسكا تؤسسس لحداثة الفنون

"هزيمة جيوش كسرى" جدارية ديلا فرانشسكا تؤسسس لحداثة الفنون

 

في اللوحات التي تصور معارك، مثل لوحة “هزيمة جيوش كسرى”، لم يبتعد الرسام النهضوي الإيطالي ديلا فرانشسكا عن موقفه الفلسفي “الأبولوني” الذي كان ينظر إلى العالم من خلاله، وهو موقف تلخصه أعماله

على رغم أنه عاش من السنين أطول مما عاش أي من فناني المرحلة الأولى من عصر النهضة الإيطالي، وعلى رغم أنه حقق من اللوحات والرسوم الجدرانية عدداً لم يضاهه فيه أي من معاصريه أو تلامذته، فإن ما نعرفه عن حياة الرسام الإيطالي بيارو ديلا فرانشسكا وتنقلاته ليس كثيراً. ذلك أن الرجل، على عكس فناني زمنه، آثر أن يعيش بعيداً بعض الشيء من حواضر الفن في ذلك الحين. عاش في فلورنسا ردحاً من الزمن، وعرفه فيها كبار الفنانين، لكنه حقق أعماله الكبيرة والتأسيسية خارجها، وبالتحديد في أوريينو، التي لم تكن مركزاً لنهضة فنية حقيقية. ومن المنطقي أن عيش فنان وعمله في فلورنسا أو البندقية أو سيينا، أو حتى روما في ذلك الحين، كان يحقق جزءاً أساسياً من وجود الفنان وشهرته. ومن هنا كان على فن ديلا فرانشسكا أن ينتظر طويلاً قبل أن يعترف به، وكان على مناصري فنه أن ينقبوا في المناطق النائية حتى يعثروا على تلك الأعمال ويكتبوا عنها ويدخلوها سجل الخلود، بصفتها أعمالاً تأسيسية أحدثت نقلة كبيرة في مسيرة الفنون النهضوية.

رسام ومنظر أيضاً

عاش بيارو ديلا فرانشسكا ما لا يقل عن 76 سنة. ومع أن الرجل كتب واحدة من كبرى الدراسات عن فن الرسم وأشهرها، وعنوانها “عن المنظور” التي ربما يصح اعتبارها واحدة من أقدم الدراسات التي عرفها تاريخ الفن التشكيلي ولا تزال تقرأ بشغف حتى الآن، فإن هذه الدراسة لا يمكنها أن تكشف كثيراً عن مكونات الفنان ودراسته المبكرة: كيف جاء إلى الفن؟ من كان أساتذته؟ بمن تأثر؟ متى كانت أعماله الأولى؟ وما الذي دفعه إلى الانتقال من الرسم الديني الذي كان الأساس لفن الرسم في زمنه، إلى الرسم التاريخي بل المعاصر؟ ثم لماذا كان اختياره أن يعيش بعيداً من حواضر الفن الكبرى؟ هذه الأسئلة من الصعب الإجابة عنها بوضوح. يمكن فقط وضع فرضيات وتكهنات. وذلك لأن ثمة غياباً تاماً في النصوص الأساسية المتحدثة عن تاريخ الفن لأجوبة تتعلق بهذه الأسئلة، غير أننا نعرف بصورة شبه مؤكدة، أن بيارو ديلا فرانشسكا الذي يدين له الأسلوب النهضوي الذي ساد وسط إيطاليا طوال القرن الـ15 بالكثير، عمل نحو عام 1439 في فلورنسا، على جداريات في سان أجيديو ليس لها أي وجود اليوم… وهو عمل على تلك الجداريات، وكان في الـ23 من عمره، إلى جانب آندريا دل كاستانيو ودومينيكو فنتزيانو. فهل كان هذان أستاذين له؟ يرجح المؤرخون أن الأخير كان حقاً واحداً من الذين أخذ عنهم ديلا فرانشسكا فن الرسم، قبل أن يطور هذا الفن في اتجاه اشتغال أكبر على المشاهد الطبيعية والسمات البشرية في لوحاته.

مجرد ترجيحات افتراضية

وكذلك يرجح الباحثون أن يكون ديلا فرانشسكا درس بتعمق أعمال المؤسسين الحقيقيين للنهضة: مازاتشيو وفرا أنجليكو، محاولاً أن يبتكر، بالارتكاز إلى أعمال هذين، ثم من عندياته، نوعاً من التوليف بين المنظور وعمقه، والنور المشع على حيز اللوحة في توزعه المبدع وربما للمرة الأولى في تاريخ الفنون الغربية، في الأقل، التكوين التشكيلي واللون. وهو حصل على هذا حقاً، لكن هذا يقربه من التأثير الفلامندي بدلاً من أن يضعه في خانة إيطالية، فهل يعود هذا إلى اللقاء الحاسم الذي كان بينه وبين الهولندي فان در فايدن في فيراري نحو عام 1448، حين كان هذا الأخير يقيم فيها ناشراً أسلوبه مستفيداً مما لدى الإيطاليين من عمق إحساس باللون والضوء؟ ربما كان الباحث في تاريخ الفن النهضوي آرونفسكي من أفضل من أرخوا لذلك اللقاء ولدوره في حداثة الرسم في بداية الزمن النهضوي في كتابه العمدة “الفطريون الفلامنديون” على أية حال.

تطوير هائل في الجداريات

مهما يكن الأمر، من المؤكد أن هذه التأثيرات كلها لم تظهر في أعمال ديلا فرانشسكا في صورة واضحة ومتكاملة إلا خلال المرحلة الأخيرة من حياته، وإن كانت إرهاصاتها تبدو باكرة لديه. وحسبنا في هذا الإطار أن نتأمل في واحدة من أشهر جداريات ديلا فرانشسكا وأجملها، “هزيمة جيوش كسرى” حتى نتيقن من هذا، وخصوصاً من تميز هذا الفنان على معاصريه، وتجاوزه لسابقيه، وتأثيره الحاسم في لاحقيه بصورة يمكن أن نقول معها إن فن الرسم (خصوصاً رسم الجداريات) في إيطاليا سيصبح بعد ديلا فرانشسكا غير ما كان عليه من قبله. ويرى الباحثون اليوم أن تأثيرات ديلا فرانشسكا ظلت حاضرة حتى زمن رافائيل وبرامانتي في الأقل. ولكن ما كنه هذه التأثيرات؟ ببساطة، وكما يمكننا أن ندرك من خلال تأمل جيد لأعماله، كما من خلال قراءة فصول كتابه الفريد من نوعه “عن المنظور”، كان هم ديلا فرانشسكا أن يضمن للرؤية التصويرية (البصرية) أساساً علمياً. غير أن هذا لا يعني أن لوحات الرجل يمكن اعتبارها تصويراً أميناً لأفكار معينة، بل العكس.

بشر وسط المعارك والهزائم

حتى في اللوحات التي تصور معارك، مثل لوحة “هزيمة جيوش كسرى”، لم يبتعد ديلا فرانشسكا عن موقفه الفلسفي “الأبولوني” الذي كان ينظر إلى العالم من خلاله، وهو موقف تلخصه أعماله، إذ يوحي تأملها بعمق بوجود إحساس لديه بالاستسلام أمام القدر، وبأن أي أمل لا يمكن إلا أن يكون عبثياً، ولهذا السبب وصفت أعمال ديلا فرانشسكا بأنها تخلو من الفصاحة على رغم تعبيرها عن الموقف. ويمكن تلخيص هذا في كلمات أخرى، انطلاقاً من فكرة أن البعد الزمني، والذي يشكل عادة جزءاً ضمنياً، ولكن أساسياً، من أي تجربة إنسانية، ليس له وجود في هذا الفن ما دام هم ديلا فرانشسكا كان، التركيز على دراسة متواصلة للبعد المكاني. ولكن، هنا أيضاً، من خلال تأمل هذه الجدارية، ندرك أن الأشكال – والوجوه – التي يرسمها ديلا فرانشسكا ليست مجرد أفكار (بالمعنى الأفلاطوني للكلمة) خالصة مجردة من بعدها المادي، بل بالعكس، هي وجوه وأشكال حقيقية، لرجال ونساء من لحم ودم، تعبر نظراتهم عن مشاعرهم. ولكن وإن كان الرسام يقف بهم خارج الزمن، وفي ارتباط أساسي مع جغرافيا المكان، فإن هذه الجغرافيا، إضافة إلى تفاصيل المكان في دلالته المعنوية، هي ما يعطيهم طابع السمو، وليس الخبرة التاريخية.

في أعماله كافة، كما في “هزيمة جيوش كسرى” كان عنصر المكان هو الذي يهم ديلا فرانشسكا في المقام الأول. ومن هنا نرى في تلك الأعمال حضوراً ممتداً ويكاد يبدو لا نهائياً للفضاء المكاني، لذا نلاحظ طغيان لغة المشهد المكانية على أي حضور بشري، مما يجعل ثمة إحساساً بانفصام تام بين تعبير الوجوه – المرتبط هو بخبرة بشرية زمنية – وبين حضور الأجساد في المكان كجزء من المكان وجغرافيته. وهذا كله شكل إرهاصاً بما سيلي ذلك، من إعطاء أهمية أكبر للوجود البشري في العمل الفني، إذ يكف ذلك الحضور عن أن يتبع المشهد، بل يصبح جزءاً أساسياً منه، في لعبة تضافر جدلية بين الطبيعة المحيطة والشخصيات المرسومة.

سيرة فنان “مجهول”

بيارو ديلا فرانشسكا، الذي يعد اليوم واحداً من أكبر فناني إيطاليا على مر الزمان، ولد خلال العشرية الثانية من القرن الـ15، الذي سيعيشه حتى نهايته تقريباً، إذ توفي في عام 1492. وهو ولد في بورغو سان سيبولكرو قرب سيينا، عند الحدود بين أومبريا وتوسكانيا. وتقول أقدم الوثائق إنه عمل لدى فنتزيانو في فلورنسا قبل أن يختفي ليظهر بعدها في سيينا. ومنذ عام 1442 نجده في قريته يمارس فنه هناك ويصبح واحداً من الفنانين الذين يوصون على تحقيق أعمال متعددة الأقسام. وفي عام 1449 رسم عديد من الجداريات في فيراري مؤسساً في طريقه تلك المدرسة التي ستعرف باسم “مدرسة فيراري”. أما معظم أعماله الكبرى فيكاد إنجازها ينحصر زمنياً خلال الفترة بين 1452 و1456. بعد ذلك نجده يعمل لدى الدوق أوروبينو، محققاً له بعض أجمل الأعمال التي تنتمي إلى تلك المرحلة، ومن بينها بورتريهات للدوق وزوجته، وكذلك ثنائيته “انتصار فدريكو دا مونت فلترو”، التي تعد واحدة من أجمل نتاجات الفن الإيطالي وأغربها خلال النصف الثاني من القرن الـ15. ونذكر أن ديلا فرانشسكا حقق خلال العقد الأخير من حياته بعض أروع اللوحات الدينية في تاريخ فن عصر النهضة الإيطالي.