الفنون بمختلف مسمّياتها وأجناسها تُعدّ استجابة طبيعيّة حياتية للإنسان، وذلك من أجل التعبير عن مشاعره تعبيرًا بلاغيًا يعكس نظرته وتصوّراته الذّهنية والنفسيّة للواقع، وتفاعله الوجدانيّ معه.
فقد لجأ الإنسان منذ القدم إلى الفنّ والجمال وجعلهما أسمى وسيلة لوعي أفكار روحه واهتماماته، وأصوله، وارتباطه بالزّمان والمكان، واستخدامه كوسيلةٍ توجيهيّة ترفيهيّة تعليميّة تثقيفيّة لأجل السمو بعملية الحياة الفردية والاجتماعية.
كون الفنّ الجمال مَلكة خَلاقة لدى الإنسان تسّمو به الرّوح، وتلذّذ به الأعين وترتاح له النفس وتقبله. ومن هذه الفنون فن التصوير (الفن التشكيلي).
حيثُ كان بدايته في القرن الخامس عشر عبارة عن محاكاةٍ للواقع والمرّئيات مع التقليل بقدر الإمكان من العوامل الذّاتية للفنان في النقل. أيّ أن الفنان ينقل الموضوع نقلًا حرفيًا وفق ما تدركه عينه دون أن يتدخل وجدانه في الرؤيا معتمدًا على الإدراك الحسيّ (ميكانيزم) الرؤية.
ومع بداية عصر النهضة في أوروبا نشأ توجه جديد ومدارس فنيّة جديدة خارج تحكّم الكنيسة وسلطتها، فأصبح المجال مفتوحًا أمام الفنانين بابتكار طرائق وأساليب جديدة في التعبير عن ذواتهم، وتكشف أنماط شخصياتهم وميولهم، واتجاهاتهم ومستواهم الفكريّ والفلسفيّ، وبعد اخترع آلة التصوير الفوتوغرافيّ (الكاميرا) حلّت محل الرّسام التشكيليّ في تسجيلٍ للمرّائيات بشكلٍ أسرع، فأكثر دقة وأمانة وجودة لهذا الأمر جعل الفنانين يبحثون عن طرقٍ فنيّة جديدة للتعبير، برغم ذلك التغيير الذي حصل في الحركة التشكيلية العالمية إلّا أن الجدل استمرّ بين المدارس الفنيّة الحديثة وبين أنصار المدارس الفنيّة الكلاسيكية الذين رأوا أن ثمّة فرق بين الكاميرا وبين الفنان، وأن الفنان شيء آخر لديه أحاسيس ووجدان ويتأثّر ويؤثّر.
فلهذا ظهر في القرن العشرين ردّة فعلٍ ومدخل آخر وردّه على المدخل الذي كان سائدًا في الفنّ آنذاك أيّ الاعتماد على المدخل الحسيّ فقط. ليظهر بعد ذلك مدخل آخر أُطلق عليه مدخل الإدراك الكليّ: والذي يعني بالاعتماد على ذاتيه الفنان واعتبارها أساسًا في التعبير والإبداع. إذ إن مدخل الإدراك الكليّ: يعتمد على الفكرة والمفهوم والتصور الذاتيّ للفنان لما تكون عليه الأشياء أيّ أن العمل الفنيّ كي يكون عملًا فنيًا ناجحًا وأصيلًا لا بدّ أن يحمل شيئًا من المشاعر التي استثارة الفنان في عالمه المحيط.
فبدون المشاعر التي تحملها الأشكال لا يعد عمله فنيًا مؤكدين بأن الحقيقة الفنيّة ذاتية موضوعية فهي ذاتية لأن الذات: هي التي تمثّل مشاعر الفنان ووجدانه وإحساسه وفلسفته ونبضه. وفي ظلّ هذا الفيض يتمّ ترجمة الموضوع، فهو موضوعٌ يرى من خلال نظرة الفنان ووجدانه، ويخرج محملًا بوجهة نظره الخاصّة والمميّزة، لهذا جاء عند أرسطو بأنه الفنّ يتألّف من المحاكاة والذي قال: (بأن الحقيقة الفنية تشبه نموذج وتحاكيه).
إلّا أن هذه المحاكاة ليس القصد منها محاكاة الواقع كما هو بل القصد منه غاية مثالية، وقول آخر يرى أن الطّبيعة هي من تحاكي الفنّ ليس الفنّ من يحاكي الطّبيعة، ليس مهمّة الفنان أن يدير مرآة في جميع الاتجاهات، والصدق الفنيّ ليس معناه المطابقة للواقع فإنّما صدق الوجدان والإحساس معتمدين على تفسير علماء الجمال الذي يقول إن الجمال الطبيعيّ شيء جميل لكن الجمال الفنيّ تصويرٌ جميل للشيء أيّ للطّبيعة.