هند الارياني
مقابلة مع صائد الجمال، وذاكرة اليمن، الأستاذ عبدالرحمن الغابري
عندما يصبح الواقع بائساً يلوذ الناس بالماضي لعلهم يجدون أملاً بأن هذا الواقع لن يستمرَّ للأبد. هذا ما تفعله صور (الغابري) التي نرى فيها حفلاتٍ، وفنانين، وطلاباً يتعلمون الموسيقى في المدارس، ونساءً يرتدين الألوان المبهجة.
صورُ شخصياتٍ يمنية رائدة في التعليم، والفن، والثقافة، صور لمصانع، وأماكن سياحية، صور تجعلنا نشعر بالحنين لهذا الوطن الآمن المنفتح على العالم.. يمن يبدو بعيداً عن الواقع الذي نراه اليوم.
في مقابلة مع صائد الجمال، وذاكرة اليمن، الأستاذ عبدالرحمن الغابري
- الأستاذ عبدالرحمن الغابري، عدسة اليمن، وأرشيفها المصور، نتمنى أن تحكي للقراء عن بداياتك في التصوير، وهل تذكر أول صورة التقطتها؟
بعد ثورة سبتمبر مباشرة، بدأ شغفي بالصور، وكان أخي الأكبر زيد قد ابتعث قبل الثورة إلى العراق ومصر، وعاد بمجلات، وكانت تثير اهتمامي، وفضولي الصور الموجودة فيها، وكنت أتمنى أن “أحبس” الزمن للجمال الذي أراه أمامي في الطبيعة، وأجسده في صورة، وظل هذا الشغف يلاحقني.
ثم انتقلت إلى صنعاء، ودخلت “مدرسة الأيتام”، ثم مدرسة الوحدة، وبعد “حصار السبعين يوماً” عام 67م، جاء فريق من التوجيه المعنوي إلى المدارس ومنها مدرسة الوحدة حيث كانوا يختارون من الطلاب من يريد العمل في صف الحروف الطباعية الرصاصية، والتنضيد لمجلة باسم “الجيش”، وأنا أحببت العمل هذا، وكان هناك قسم تصوير تركه المصريون، وهناك التقيت بالأخ (خالد السقاف) الذي كان يعمل في قسم التصوير، وأيضاً (عبدالله السنحاني)، لكن (السنحاني) كان ضابطاً، ولم يكن متفرغاً، لكنه يصور أحياناً، أما (السقاف)، فكان يصور، ويحمض، ويطبع، فبدأت العمل معه، ابتداء من (الدارك روم)، وكانت هناك أفلام تركها المصريون، ومن قبلهم العثمانيون، فقمت بأرشفتها، وتعلمت التحميض، والطبع، فارتاح (السقاف) لوجود من يساعده في العمل، فأخبرته أني مستعد لأي شيء، وبالفعل كانت هناك في القسم كاميرتان (رول فلكس)، وكاميرا لتصوير صور بطائق الجيش، فكثفت من عملي في القسم، وخرجت بالكاميرا لأول مرة في نهاية عام 68م، فتذكرت شغفي الأول أن أصور المناظر الطبيعية في قريتي، ولم يكن ذلك ممكناً، فالكاميرا ليست لي بل يجب إرجاعها مع نهاية اليوم، فقررت أني يجب أن أمتلك كاميرا خاصة بي، وكان هناك ضابط عائد من روسيا ولديه كاميرا (زينيت)، فاتفقت معه على شرائها منه، وكان معاشي حينها 51 ريالاً، فطلبت منه أن أقسط ثمنها من معاشي، والتزمت له بأن أصور له ما يريد، وكانت هذه أول كاميرا أمتلكها، ثم ابتعثت إلى سوريا عام 70م، فدرست هناك، وتعلمت فرز الألوان الطباعي، إلى جانب دراسة الموسيقى، وعدت إلى اليمن في إجازة عام 73م، ثم عند إكمال الدراسة، عدت إلى صنعاء، وذهبت إلى التوجيه المعنوي، وكان (خالد السقاف) قد ترك العمل، ولم يبق إلا (عبدالله السنحاني)، فعملت فترة قصيرة حتى حصلت في نهاية 74م على منحة دراسة إخراج سينمائي في بيروت، والمخرج السينمائي يجب أن يكون ملماً بالتصوير الفوتوغرافي، وهذا فادني كثيراً، وتخرجت بدرجة امتياز، وشاركت فريق عمل فلسطيني في فيلمين، الأول حمل اسم “كفر شوبا”، والثاني “مكان الولادة فلسطين”.
- هل نستطيع القول أنك كنت أول مصور رسمي عمل مع الدولة في مجال التصوير؟ ومن تذكر من مصوري اليمن الأوائل؟
قبل الثورة كان رائد التصوير الأول (أحمد عمر) الذي تعلم التصوير في عدن على يد البريطانيين، والهنود، ثم عاد إلى تعز، وكان الإمام يطلبه لتصوير ما يريده مثل الإعدامات في ميدان الشهداء في تعز، أما بعد الثورة فالذين عملوا بشكل رسمي مع الرؤساء اليمنيين كان هناك (عبدالله السنحاني) و(خالد السقاف)، وكانت هناك مجموعة من المصورين تتم دعوتهم لبعض المناسبات، مثل (علي الرموش)، و(علي السمة)، هؤلاء من الأوائل، وفي فترات لاحقة كان هناك عدد أكبر، أما عني فلم أكن أرغب في أن أظل أصور رئيساً أو مسؤولاً واحداً، فأنا عاشق للحرية، لكني كنت كثيراً ما أذهب مع الرؤساء والمسؤولين في مناسباتٍ داخلية، وخارجية. وصورت الرؤساء (الإرياني)، و(الحمدي)، و(الغشمي)، و(صالح)، وكان (صالح) كثيراً ما يدعوني بشكل شخصي خاصة في رحلاته إلى الخارج. -
وثقت عقوداً من تاريخ اليمن بعدستك، أستاذ عبدالرحمن الغابري ما هو العقد الذي تعتبره العقد الأكثر بهجة، وفرحاً، وبشراً؟
من بعد الثورة مباشرة، تطورت حياة الإنسان، وازدهرت الفنون، وأرى أن السبعينات والثمانينات كانت الأجمل، وذلك قبل أن تأتي الحركات الدينية التي لوثت البلاد، ولوثت حياتنا، فهي سبب رئيسي لما نحن فيه، فقد أعادت البلاد قروناً إلى الخلف، فهي على عداء مع الإنسانية، والثقافة، والجمال، ورسخت ثقافة الموت. -
من الشخص الذي تفتخر، وتعتزّ بالتقاطك صورة له؟
الصورة التي التقطتها لوالدتي في الحقل هي أكثر صورة أعتز، وأفتخر بها. -
نتمنى منك أن تختار لنا من مكتبتك صورة لها قصة تشاركها مع القراء الكرام.
في أثناء زيارة الكاتب الألماني الكبير (غونتر غراس) الحائز على جائزة نوبل إلى اليمن عام 2000م، زار منطقة حراز، وشدَّ انتباهه هذا الطفل الصغير الذي يقرع على الطبل، والتقطت هذه الصورة متذكراً روايته الشهيرة (الطبل الصفيح)، والتي لا شكّ خطرت على باله وهو يتأمل الطفل بسعادة، ودهشة. وهناك الكثير من الصور التي لها قصص وحكايات، ولا يتسع المجال هنا لذكرها. -
يعرف أحباؤك، وأصدقاؤك، دعمك الكبير للمرأة اليمنية قولاً وفعلاً، فهلا بيّنت لنا وضع المرأة اليمنية من خلال الصور التي التقطتها، منذ أول صورة التقطتها حتى اليوم؟
ركزت على المرأة، والطفل، والعاملين في الزراعة، فمعظم الأعمال الزراعية تقوم بها المرأة لا الرجل، صحيح أن الرجل (يِبْتِلْ)، لكن المرأة تبذر، ثم تنقّح الزرع، ثم تشرف، ثم تزيل الحشائش، بالإضافة إلى قيامها بأعمالها المنزلية، وترعى الماشية، لذلك اهتممت بالمرأة اهتماماً كبيراً، لأنها الأكثر تواجداً في العمل الزراعي، فالمرأة الريفية هي العمود الفقري للزراعة.
طبعاً في المدينة صورت أعلاماً نسائية يمنية، وبالعودة إلى ما قلته سابقاً حول شغفي بتصوير الجمال في الطبيعة، والريف اليمني، فإن المرأة اليمنية هي جزء من هذا الجمال منذ أن كنت أسمع صوت الراعية وهي تغني في الحقل، فيتردد صدى صوتها من الجبال، وكان لديَّ خوفٌ مع نهاية فترة الثمانينات مع انتشار التيارات الإسلامية أني لن أجد هذه الحياة المليئة بالجمال فحاولت توثيقها، وبالفعل مع نهاية التسعينات لم أعد أستطيع حتى تصوير قريباتي.
- أقيم لك معرض في السويد نهاية العام 2018 ولم تستطع المشاركة فيه، اذكر لنا السبب، وهل كان جواز السفر عائقاً أمامك سواء في السويد أو في غيرها؟
الحقيقة أن في معرض السويد، كان كلُّ شيء جاهزاً من قبل جامعة (مالمو) ومركز (ابن رشد)، ابتداء من دعوة الحضور، مروراً بإقامة المعرض، وحجز الفندق، وحجز تذاكر السفر، لكنني فوجئت بعد تقديم أوراقي للقنصلية السويدية في القاهرة للحصول على الفيزة، بالرفض، وقد فهمت من القنصل السويدي في القاهرة الذي اعتذر لي عن هذا الرفض، وعبّر عن احترامه لكل من يقدم فناً باعتباره شيئاً مقدساً، أن السبب في ذلك هو تحايل الكثير من اليمنيين، وتقديمهم للجوء حال وصولهم إلى السويد، وبعض أولئك، كانوا دبلوماسيين أو في مهمات رسمية، ويحملون جوازات سفر دبلوماسية، فأدركت أن اللوم لا يقع على الجهات الرسمية السويدية بقدر ما يقع على (أصحابنا) الذين تجاوزوا النظام والقانون، فاضطروا لفرض قيود أكبر على اليمنيين خاصة للحصول على الفيزة. -
مع أن في التوريث السياسي فساداً كبيراً، إلا أن في توريث الإبداع والجمال صلاحاً كبيراً، وأنت ورثت عدداً من أولادك (ذكوراً وإناثاً) عيناً لاقطة جميلة، حدثنا عن تجربتك في توريث الإبداع، والجمال.
أنا –طبعاً- لا (أخزّن القات)، فقضيت معظم عمري أتنقل في محافظات اليمن، كالرحالة، وكان أولادي (ذكوراً، وإناثاً) يرافقونني في كثير من هذه الرحلات، وأنا ألتقط الصور، فتجولوا معي في الجبال، والوديان، والسهول، والسواحل، والجزر، وفي مرحلة الثانوية، وما بعدها بدأوا في مساعدتي، خاصة في الجانب الرقمي، وقاموا بأرشفة الكثير من أعمالي (بوزيتيف، ونيجاتيف) على الكمبيوتر، ورغم تنوع تخصصاتهم الجامعية المختلفة إلا أنهم اهتموا بالتصوير، وعملوا فيه مسلحين بتقنيات العصر، فتميز (زرياب، وأمين، وأريج، وشذا) في أعمالهم، و(زيّدوا) علي وهذا ما يسعد أي أب، فهذا ما كان، لم أفرض عليهم شيئاً، لكنها البيئة التي عاشوا فيها مضت بهم في هذا الطريق.
- كيف تنظر لدور التقنيات الحديثة في عمل المصور؟ وهل ترى أن تأثيرها كان سلبياً، أم إيجابياً؟
لا شكَّ أن من التقنيات الحديثة ما هو جميل، ورائع، لكنها بالتأكيد ليست بمستوى المتعة التي كان عليها التصوير القديم، وأكثر ما يساعد المصورين هذه الأيام هو رؤيتهم للنتيجة فوراً، فنحن كنا نصوّر “غيابيّاً”، نضبط الإضاءة –بدون لايتميتر- ، ونضبط إعدادات الكاميرا، وعينك هي التي تتخيل المشهد، ولا ترى المشهد إلا بعد تحميض الفلم، وطباعته.
لكن لا شكَّ أن التقنيات الحديثة تصبّ في مصلحة الصورة، وتبقى الصورة هي كلّ شيء، وهي الأكثر تأثيراً، والمستقبل هو للصورة، وأنت تستطيع استرجاع الماضي من خلال الصورة بأكثر مما تستطيع من خلال الكتاب.
- ختاماً، في زمن الحرب التي جعلت “صورة اليمن” للعالم بلداً يعاني من آثار الحرب، والدمار، والجوع، والموت، هل ترى أن عليكَ وعلى المصورين اليمنيين إبراز اليمن من خلال الصور الطبيعية الجميلة، والحياة التي تقاوم الموت، والأمل الذي يغالب اليأس؟ وما الذي قدمته، وستقدمه في هذا المجال؟
الحقيقة أني كافحت قبح الحرب، وقبح الكارهين للحياة، ففي فترة الحرب، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، نشرت جمال اليمن من المهرة، إلى صعدة، إلى سقطرى، إلى الجزر، وطبعاً أنا صورت أيضاً آثار الحرب، وبالذات الدمار الذي حصل في (عطّان)، لكني لا أحب المشاهد المؤلمة، وأفضل أن أنشر صور الجمال، والحياة، وما زلت إلى اليوم أصور، وقد قبض عليّ مؤخراً في صنعاء وأنا أصور الجمال في صنعاء القديمة من قبل السلطات، وصادروا المعدات قبل أن نتمكن من إخراجها بعد حذفهم لمجموعة من الصور لا مبرر لحذفها، وكانت الصور من أجل فيلم من إخراج ابنتي، وسيعرض قريباً.
يريدون منا أن نتحدث عن الموت، وعن الدمار، لكن مع هذا، لا زلت أنشر جمال اليمن، وثقافة اليمن، وهوية اليمن، وكل ما يسر الإنسان اليمني، ويخفف من وطأة الحرب.
-أستاذ عبدالرحمن الغابري، كلمات أخيرة توجهها، للساسة اليمنيين، والمصورين اليمنيين، والقراء الكرام؟
افتقدنا لمعنى السياسة، ولا أرى ساسة حقيقيين، أتمنى ممن بقي منهم أن يجدوا حلاً لهذا الشعب، أما كلمتي للمصورين، فأتمنى منكم أن تركزوا بشكلٍ أساسي، على مفاتن بلادكم بالدرجة الأولى، سجلوا، ووثقوا كل ما هو جميل في هذا البلد، وأن تكونوا متمكنين تقنياً، وبصرياً، وأن تستخدموا موهبتكم في إبراز الجمال، وأقول للقراء الكرام، شكراً لكم على احتمالكم لما قدمته في هذا الحوار.
المصدر/أخبار الآن