د. آمنة النصيري
منذ تسعينات القرن الماضي إلى وقتنا الحاضر وُجدت أسماء فنية بأعداد لافتة في المحترف التشكيلي اليمني، وذلك نتيجة تخرج دفعات شابة من كلية الفنون، والمعاهد، وأقسام التربية الفنية (المنشأة حديثاً في الجامعات اليمنية)، ووسط هذه الكثافة العددية المتنامية ظهر فنانون شباب كثر، اجتهدوا في تطوير محترفاتهم وتحقيق حضور فاعل في الوسط الفني، وحقق بعضهم انتقالات أسلوبية تصاعدية في زمن قياسي.
وإذا كانت الحرب بما لها من استتباعات مدمّرة قد أثرت في السنوات الأخيرة على عموم المشهد الإبداعي والثقافي اليمني، إلا أن غالبية المبدعين الشباب ممن لم يغادروا اليمن للنجاة من فجاجة الحرب، آثروا عدم الارتهان إلى سوداوية المحيط، وانصبّ اهتمامهم على إقامة مناشط متنوعة، وإنجاز ما يمكنهم إنجازه من تجارب.
وفي لجة العنف الكلّي، وعلى نحو خاصّ كافح التشكيليون الشباب في سبيل تأكيد حضورية الفن وخلق هامش محدود يقدمون فيه نصوصهم، ضمن إطار ضيق من حضور نخبوي وأجواء شبه مغلقة. بيْدَ أن الحرب الدائرة ليست الإشكالية الوحيدة التي يعاني منها الفنانون في اليمن، وإن كانت في الوقت الراهن العبء الأهم والفاعل الأوحد في تراجيديا الأوضاع الحياتية، غير أن هناك إشكالات أخرى تراكمت خلال عقود وألقت بظلالها على المحمل التشكيلي في مجمله، وتتعلق بالمنظومات التي سادت في المجتمع المحلي، وبعض الأنساق الراديكالية المؤثرة.
ويمكننا القول، إن تجربة هذا الجيل من الفنانين الشباب قد صاحبتها الكثير من الصعوبات والتعثر أحياناً والصراع مع قِيَم الراهن التي هي عبارة عن أخلاط من وسائل وبنى وشبكات علائقية ضمن منظومات تسودها الفوضى والتداعي على كافة الأصعدة، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. بالإضافة إلى إرث معرفي جمعي يسوده الارتباك، والتراجع، ومحدودية فهم معنى الفن، وجهل بحيوية دور الفنان. مما أدى من ناحية إلى تحجيم العلاقة التفاعلية بين الفنان ومحيطه، وبالتالي بين النص الفني والمتلقي، مما ساعد على تعميق البوْن بين الفنان والجمهور وغربة التشكيلي وقطيعته عن عالمه قطيعة فنية معرفية، فبرزت إشكالات بديهية ومنطقية إذا ما تم دراستها في إطار المؤثرات الموضوعية التي تحاصر الفن والفنانين، ومنها أن الذائقة الجمعية النابعة من ثقافة الجمهور مارست بطريقة غير مباشرة سلطتها على اتجاهات التجارب الشابة، إذ حفزتهم بشكلٍ ما على إنتاج ما يطلق عليه بالفن الجماهيري مع الحفاظ على إيجابية المعنى، إذ لا نشير إلى المنتج الفني الشعبوي حرفيا، ولكن المقصد هو في تقييد الفنان بشروط معينة لإنجاز عمل فني يستدعي الواقعي والتقليدي.
ومع ما لفردية المبدع واستقلاليته واختيارية عزلته من دور في الحد من هيمنة الشروط الخارجية عليه وخاصة المجتمعية، إلا أن المقاومة والموقف الصلب من قبل الفنان يبقى مرهوناً بالظرف الاقتصادي وضغوطه وأعباء صاحبه التي تلزمه في أحايين كثيرة بالرضوخ لغواية سوق الفن المحلية على محدوديتها، هذا ما يبرر تموقع مجاميع من الفنانين الشباب عند التيارات الواقعية، واشتغالهم على أعمال توصف مشهدية البيئة المحلية بما لها من ثراء معماري وتنوع جغرافي وإرث بصري شعبي ثري بالزخرف واللون، وقد ساهم المقتني الأجنبي (المقيم المؤقت) في سنوات ما قبل الحرب في تعميق ظاهرة الفن بمنهجيته الاستشراقية، ذلك أن العاملين والزائرين من مختلف أنحاء العالم لا يتمتعون بالضرورة بذلك الحس الثقافي الرصين، والذائقة الفنية والنخبوية الباحثة عن الأصيل والفني في العمل، فأغلبهم يبحث نوعاً ما عن صور ذات سمة واقعية.
يضاف إلى ذلك كله ولع الفنانين الشباب بالاتجاهات الواقعية تحت تأثير عوامل أخرى منها: المدى الزمني المؤثر في تطور التجارب، والذي ما زال يغري الفنان بمرحلة التِّقانة، والتمكن من الأدوات والمناهج الأكاديمية التي لا يحصلون عليها بشكل كافٍ أثناء الدراسة، بل إن بعضهم لم يلتحق أساساً بالدراسة الأكاديمية فاعتمد على عصامية البحث والدراسة.. ولذا يجدون متعة في حالة الإبهار التي تثيرها التجارب في أوساط الجمهور، وقد نجح عدد منهم في تكريس خطاب واقعي يتسم ببلاغة الأداء والنضوج الفني، مثلما نجده لدى الفنان (زكي اليافعي)، الذي قدم سلسلة من أعماله ذات المنهج الواقعي بمهارة وحرفية عاليتين، والتقط تفاصيل من الحياة بدقة تبعث على الدهشة؛ فيها قدر كبير من تلك الواقعية المفرطة التي أسس لها الفنانون قبل عقود وما زالت تملك سطوة على المتلقي الذي يرى في الفن عملية من عمليات تحويل الوقائع والصور الاجتماعية إلى علامات مباشرة في دلالاتها وإشاراتها ضمن نسق جمالي.
يصور زكي اليافعي شيوخاً يفترشون الأرض المغطاة بالسجاد المزركش داخل مساجد محلية البناء والزخرف، يقرؤون القرآن، أو يتأملون في فضاءات روحية.. ويتابع حركة المارة داخل أزقة مدينة صنعاء القديمة، الضاجّة بلعب الصغار وضوضاء ألوان الدكاكين الصغيرة، كما يرصد آثار الزمن في الوجوه المتعبة البسيطة المنهكة بفعل الشيخوخة وتاريخ طويل من المعاناة، إنها في مُجملها صور أخاذة، ليست مفارقة للواقع، لكنها تكتسب جاذبيتها من الدرجة الأدائية العالية التي للفنان المتمكن من تطويع أدواته المخلصة للسياقات الواقعية، وفي الوقت ذاته تحافظ هذه التجارب على حالة التصالح مع الإرث المعرفي الجماعي، وطبيعة الذائقة والوعي لدى المتلقي الذي ما زال يرى في اللوحة تمثيلاً كاملاً للخارج، وحضوراً كلياً وحرفياً له، وبصيغ مشابهة توالت تجارب فنانين عديدين في مراحل مبكرة مثل: هشام العلفي، عائض العاضي، حمود الضبياني، أحمد الشلالي، ردفان المحمدي، جلال الشميري، غادة الحداد، وحيد أحمد، وآخرين.
إلا أن بعض من هؤلاء الفنانين ما لبث أن تحول بفعل التأثيرات التراكمية للخبرات الذاتية، وتنامي الوعي الفردي الإبداعي، إذ من الصعوبة أن نتصور الفنان حبيس السياقات والشروط الاجتماعية والتاريخية فقط، إذ إنه بين مرحلة وأخرى يصغى أيضاً إلى طاقاته الداخلية وتساميه وفرادة وجوده، بل وضرورة غربته كذات مبدعة تبحث عن اللاّ مألوف والمختلف في الاعتيادي والرتيب والمكرر.. محاولاً الانفلات قدر المستطاع من الظواهر ذات المنشأ الاجتماعي، والإنتاج بمعزل عن المؤثرات والاشتراطات المتعددة، إذ يسعى البعض إلى إكساب رؤيته شرعية نابعة من ثورية الفن، يتجلى ذلك في أعمال الفنان (حمود الضبياني)، التي أعادت إنشاء المشهد المعماري وفق بانوراما لونية للمدينة، اعتمدت على تنظيمات حركية حاذقة فيها وعي عميق بالتكوين، الذي حرص الفنان على جعله دائريا مفتوحا إذ لا بداية أو نهاية للمشهد، فالبقع اللونية واشتباك الخطوة رأسياً وأفقياً، يقوّض مفهوم الثبات، ويفصح عن موقف جمالي إزاء المعطيات الحسية عن طريق إيجاد طاقات ومحمولات دلالية ثرية في تنويعات الألوان والخطوط وتضاعيف هندسية العمارة، التي بعدت عن الصراحة والإنشاء الرتيب المنمط، ورغم إسهاب المصور في سردية البناء، إلا أنه استند على هيكلة خفية لشبكة من الترابطات المتغيرة باستمرار فنجح في استجلاء صيغ جمالية محضة، تميل إلى حدّ كبير نحو القيم اللونية التأثيرية.
هذه القيم تتكرس بصورة أكثر جلاء في لوحات التشكيلية (ألطاف حمدي)، التي تحيل الحياة بشتى تمظهراتها وبشقيها الباطني والسطحي إلى جُمَل لونية مكثفة، تحرر الطاقات القصوى للّون، موظفة حزم الألوان وتنويعاتها ضمن ميكانيزم يدور حول محو الحدود بين الأشكال، وإلغاء الخطوط الفاصلة بين الكيانات، بين الكائن الحي وعالمه، والانضواء داخل مجازية الوجود ونسبيته في النصوص التي أنجزتها، فالفنانة مستغرقة في تأكيد وحدة الشكل، من خلال إلغاء حيادية الفراغ، واستبعاد جدلية علاقة الكائنات بالمحيط المادي، والداخلي والوجداني -بالظاهري الحسي، فهي تُسقِط الانفعالات الشعورية على الشكل من جهة، وتستشفّ الحياة الداخلية في الإنسان لتصعدَ بها إلى ظاهر الصورة، لكن هذه البداهة الفنية الانتقائية لا تدفع بالفنانة إلى التغاضي عن المضمون، وخاصة في ما يتعلق بهموم الإنسان داخل البنيات القمعية خاصة تلك التي تجثم على الأفراد في فضاءات الحرب التي تجعل منه كينونة منكسرة مقموعة تعيش ضمن فضاءات القهر والانتهاك والنكبات، إلا أن الشخوص القابعة في هذه المستويات والمتمثلة أشكالاً متعددة من القسر والعنف، لا تكفّ عن المقاومة، كأنما تريد المصورة أن تؤكد على أن الحالة التأثيرية التي تعيشها ليست بنْية معزولة عن المجتمع، وأن فعل الإبداع هو فعل تغيير وتمرد يقابل مفاهيم الخضوع والانكسار، فالألوان الصارخة والمشتعلة أحياناً، الحالمة أو الضاجّة بالحياة في أحيان أخرى، تفضي إلى مخزون من الدّلالات والممكنات من الاحتمالات الإيجابية عن الوقائع الإنسانية، ودور الكائن والإرادة البشرية في إيجاد عالم يوازي عوالم العنف ومنظومة الصراع.. بهذه اللغة التشكيلية تبلغ الفنانة رسالتها المتمحورة حول موقف اجتماعي- إنساني، منطلقة من قناعات لا تقصي من الفن قضايا الأمة، ضمن هذا السياق يمكن إدراج جزء كبير من نتاج فنانين مثل: غادة الحداد، وأمل فضل، وهيفاء سبيع، ومراد سبيع، وغيرهم، وهم جميعاً جديرون بدراسة مستفيضة لا تتيحها المقالة، إلا أنه يجدر المرور على تجربة الشابة أمل فضل؛ كونها تتخذ سياقاً يغادر سلطة الخارج المجتمعي، ويفلت من الانضواء ضمن عباءات الأساتذة من الفنانين المحليين، فهي تنفتح على أفق رحب، وتسعى بشكل دؤوب إلى إثراء أدواتها، وتكوين نفسها عبر بحث تقني ونظري يكشف شغفها بالابتكار والتوليف وتكثيف بناءات النص الشكلية لاستجلاء علائق متنامية للتكوينات، وبالتالي منح الأعمال قابلية اشتقاق بدائل رمزية للواقع وللممكنات أكثر جاذبية، فاللوحة عند أمل حيّز يحتمل المقاربات واللعب الخلاّق والمراوغة والالتباسات البصرية والذهنية، بغية تحقيق حضور أكثر إثارة وخصوصية.
وتنزع الفنانة إلى الجمع بين تقنيات الرسم والتصوير الصباغي وإضافة مواد منتقاة مثل قصاصات القماش والأحبال والمسامير وأشياء غيرها، بحسب مقتضيات تخييلاتها الفنية، كل هذه الأشياء تضعها على سطح اللوحة، فتحرك الفراغ المحيط، وتكسر حواجز المتوقع، وتقترب من النحت والأعمال الفراغية، فتنجح إلى حدّ بعيد في خلق فضاء متنامٍ للنص، وممكنات دلالية مفتوحة.
وهي بذلك تتفرد عن السياقات التي يشتغل عليها كثير من الرسامين من جيلها، حتى إنها تكاد تمثل مشروعاً ثرياً في المحترف اليمني، وإن كان لا يزال في بداياته، إلا أنه قابل لأن يكون أنموذجاً محرضاً للشباب من المصورين على المزيد من التجريب والجرأة وإطلاق الطاقات والنأي عن مجانية الصيغ التقليدية.
أما على مستوى المضمون فالفنانة مهمومة كما هو الحال مع عديد النساء التشكيليات بثيمات القهر ومنظومات القمع -وخاصة قهر كينونة الأنثى- كما أن الغضب هو طابع الاعتراض الصارخ، وهو الدالّ المشترك في أعمال معظم الفنانات ومنهن أمل فضل، إذ يستجبن للغضب وللاستغاثات المعلقة، ولمشاعر الاغتراب، وللشعور بالمرارة جرّاء الممارسات المجتمعية الظالمة إزاء النساء، وإذا كانت أمل فضل قد نجت من الوقوع في فخ التطرف النسوي إلى حد ما، نتيجة ميلها إلى تعميم القمع وإسقاطه كحالة عامة يعايشها الكائن داخل أزمنة مأزومة عالية الدراما، فإن العديد من بنات جيلها الفنانات وتحت تأثير النزعات الساخطة على مجتمعات الذكورة الأبوية، يساهمن في الحد من فنية الأداء الفني لصالح المضمون، والعلاقات الدراماتيكية في الأعمال، وهو ما يشبع في دواخلهن حاجات ذاتية إلى التمرد على المؤسسات الذكورية.
بل إن محتوى التجارب التشكيلية لجزء كبير من الشابات يغرق في تمثل علاقات الرجل بالمرأة، إما من خلال صيغ تتسم بالعدوانية، أو عبر حوارات جدلية لانهائية مع الرجل، تحاول استعادة الهوية المُستَلبة، وفي كلتا الحالتين تنزلق الفنانات في مأزق تكريس العزل الاجتماعي، واجترار الاستجابات العاطفية المباشرة التي تكتظ بها النصوص.
الفوتوغراف والوسائط.. تحولات فنية جادة
في الخمسة أعوام الأخيرة، وفي ظل احتدام الحرب اليمنية، وبشكل لافت، أقام جيل من المصورين الفوتوغرافيين الشباب معارض فنية لافتة، نأت عن التقاط المشاهد الطبيعية، والمناظر الاعتيادية التي سادت في أعمال الأجيال السابقة، تلك التي اعتمدت على الحرفية العالية التقليدية مع الحفاظ على المحتوى التقليدي للصورة الذي لم يخرج في الغالب عن توثيق الوجوه الإنسانية وملامح البيئة والفولكلور والطبيعة، ولم يتعدّ هذه القوالب سوى استثناءات من المصورين اليمنيين في مقدمتهم الفنان عبدالرحمن الغابري.
أما الجيل الجديد من المصورين الذين نمت تجاربهم في ظل العولمة، والثورة الرقمية، والحراك السياسي والاجتماعي الذي تنامي في الشارع العربي منذ العام 2011، فإنهم سلكوا اتجاهاً مغايراً في التعامل مع الصورة الضوئية، وخرجوا بحلول فنية أثارت الكثير من الأسئلة حول وظائف هذا الفن -والقيم الجمالية والفنية والفكرية الجديدة التي يتمثلها وتنتمي إليها مبادئ الحداثة وما بعد الحداثة.. فقد طرحت أعمالهم قضايا متعلقة بمسائل زلقة وشائكة شكلاً ومضموناً، تتحقق فيها أساليبُ تقترب من التشكيل الأدائي أو مسرحة النص بصورة تتحدى اكتمال الفن، وتُحدِث نوعاً من الإرباك والقلقلة في أنساق الفنون وثبات تصنيفاتها، فالصورة الفوتوغرافية، أصبحت في زمن قياسي تنافس اللوحة المسندية ذات الخامات الصباغية المألوفة؛ لأن الفنانين الفوتوغرافيين أفادوا بشكل كبير من الإمكانات التي تتيحها لهم حركة التطور التكنولوجي الواسعة في أدوات التواصل والوسائط الرقمية، والكفاءة العالية التي راحت تعمل بها آلات التصوير، وفي الوقت نفسه حدث انتقال فارق في وعي الشباب الذي استوعب جوهر الحداثة ومنطقها في توصيف الفن والحالة الإبداعية، لعل أهمها: أن الفنان يشتغل على كافة العلاقات الممكنة بين عناصر الواقع، الحدث – الموضوع، ويتداول المعطيات الحسية (المتعدد الحسي) وفْق وحدة المفهوم التي نردّها إليها استناداً على الوعي المعرفي والثقافة، وبالتالي صارت الصورة عبارة عن تأليف منتج للعلامات الدالة التي تنسحب على جانب من الوجود، ومن العالم ضمن مجالاته النفسية والاجتماعية والسياسية والدينية.
فالاخوان، أمين وزرياب الغابري، يقدمان أعمالاً مدهشة منتزعة من حركة الشارع والمشهد المحلي بكل تنويعاته، بالإضافة إلى تجارب أخرى أخاذة منجزة داخل المشغل، ويحقق الفنانان حضورا دوليا.
المصورات الشابات مثل: أميرة الشريف، وإيمان العوامي، وثناء فاروق، وأخريات من جيلهن، قررن التركيز على طابع أكثر خصوصية؛ فأميرة على سبيل المثال اختارت الاشتغال على التقاط وجوه النساء اليمنيات المتموضعة خلف شفافية الأقمشة الحريرية، أو الدانتيل الذي يبدي القليل من التفاصيل ويحجب الشكل، أو الرداءات المزركشة المسكونة بضجيج لوني، ملامس مختلفة توظفها الفنانة من القماش، كي تترك باباً مفتوحاً من الممكنات التخييلية، إنها رؤية فنية جذابة لا تخلو من روح إبداعية وبحثٍ بصري يستند على مخيلة ذات كفاءة عالية في الابتكار، وهي في الوقت عينه موقف جمالي إزاء معطيات حسية وشعورية تتسم بالأنوثة في أجمل تجلياتها.
ويمثل كلّ من: عمر التميمي، وياسمين الهذيلي، وأنغام الصرحي، تجارب لافتة في تطويع التصوير الرقمي وتوظيف الوسائط، لإنتاج أعمال فنية ذات مستوى تقني رفيع يدلّ على مخيلة خصبة تفتح خزانًا من الدلالات الشكلية والفكرية، وتزحزح الحدود بين التقنيات لتوسيع مفهوم المدرك الحسي في بناءات الشكل، حتى إن الأعمال التي ينتجونَ هي أقرب إلى مجال فن التشكيل الأدائي، وهم بهذا يمهدون لولادة طقوس جديدة لإنشاء العمل، ربما ليست غريبة في الأوساط العالمية، لكنها حديثة في المجتمع اليمني، وتلك جرأة من قِبَل هؤلاء الشباب الذين يتحدون الذائقة العامة والوعي الجمعي في واقع محاط بالكثير من المحاذير.
أخيراً، لا بُدّ من التأكيد على أن حضور التشكيل في اليمن، وتعدّد مصادره ومساراته، يبقى ظاهرة إبداعية مشتبكة مع حركة المجتمع، ربما ما زالت تعيش بمنأى عن الذائقة الجمعية في جزء منها، غير أنها لا تزال تواصل بحثها الدؤوب المرتكز على مستندات جمالية، غير آبهة بغياب الشروط التي تساهم في تفعيل نشاط دوائر التجريب والتأصيل، ذلك أن المحترف اليمني في ظل الواقع الراهن لا يكفّ عن تكثيف نتاجاته لإيجاد فضاء متنامٍ للفن، كما يمعن في إدانة الحرب، وينتصر للحياة والسلام والإنسانية.
نقلاً عن مجلة نزوى
25 مارس 2020