تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » السينما بوصفها «طبيعة صامتة»

السينما بوصفها «طبيعة صامتة»

 

سليم البيك*
في العلاقة بين السينما والفنون البصرية، تأخذ عموماً الأولى من الثانية، فتُقدم ما سماه فالتر بنيامين «إعادة إنتاج» لأعمال بصرية (لوحات مثلاً) مجردة من السياق الأصلي للعمل الفني، مدمجةً هذه الأعمال مع سياق الفيلم ذاته، حكاية وشخصيات، أمكنة وأزمنة. فنجد غالباً إحالات لأعمال فنية في أفلام، أو، وهذا المقصَد، نرى إحالات لأعمال فنية في صالة السينما. هنا، في المعرض الذي استضافه متحف اللوفر في باريس ما بين أكتوبر/ترين الأول ويناير/كانون الثاني الماضيين، رأينا العكس، إحالات لأفلام في صالات المعارض. كانت العلاقة في شكلها المقلوب: السينما في صالة العرض لا الفن في صالة السينما.
يقدم معرض «الأشياء» تناولات الفنون على أشكالها، من الرسم والنحت حتى التركيب مروراً بالمقتنيات والأثريات والفيديو والسينما، لما يُعرف بالطبيعة الصامتة، من أزمنة ما قبل الميلاد حتى الفنون المعاصرة. تخللت المعرضَ، في ذلك، أربعةُ أفلام قدّم كل منها «طبيعة صامتة» ضمن لقطات شبه ثابتة، أربعة أفلام لأزمنة وتيارات وأساليب وثقافات مختلفة، هي «الفزاعة» و»مترصد» و»وقت اللعب» و»نقطة زابريسكي». مشاهد قصيرة من كل فيلم كانت أعمالاً فنية لطبيعة صامتة/ثابتة/ميتة.

«الفزاعة» 1920

الفيلم (The Scarecrow) للأمريكي بستر كيتن، والمشهد المعروض منه في الصالة كان لمزارعَين يتناولان وجبة في استراحة، جالسَين إلى طاولة، الأواني والكؤوس ملتصقة عليها، ما منحها، من خلال تصوير أمامي وثابت، شكل لوحة بطبيعة صامتة لا تتحرك «الأشياء» داخل إطارها. يرفعان الطاولة ويميلانها، وكل شيء في مكانه. اللقطة كانت أشبه بشخصيتين متحركتين داخل الإطار وخارجه في الوقت ذاته، دون أن تؤثر حركاتهما في «صمت الأشياء» وثباتها حولهما، كانا العنصر المتحرك ضمن أشياء صامتة (ثابتة/still بالإنكليزية وميتة/morte بالفرنسية) كأنهما في لوحة مرسومة، عناصرها ثابتة. بخلاف الأفلام التالية، كان الصمت عند كيتن مرحلة سينمائية تتعلق بالصوت لا الصورة، لكن هذا المشهد تحديداً، ولابتعاده عن عموم الأسلوب السينمائي لكيتن، برز في ثبات الأشياء فيه، وفي أمكنتها، بتمثيلها لوحةً صامتة يتحرك في فضائها رجلان محاطان بصمت بصري كما هو سمعي، الأول لأسباب جمالية والثاني لأسباب تقنية.

«مترصد» 1979

معروف عن بستر كيتن أنه سينمائي البهلوانات، سينماه الصامتة تعتمد على الحركات، وعلى مط الحركات وتواترها، الشقلبات والانقلابات الميكانيكية، ما جعل استنتاج «طبيعة صامتة» من فيلم له، أمراً صعباً، فالأشياء في لقطاته دائمة التحرك، على النقيض من ذلك كان السوفييتي أندري تاركوفسكي، صاحب سينما تأملية «صامتة» في شكلها، فلأعماله طبيعة الصور الفوتوغرافية في جمالياتها وثبات «الأشياء» داخلها، شهدت حركات داخل الإطار أم لم تشهد. مثال على ذلك فيلمه هذا(Stalker) والمشهد الذي استخدمه المعرض بصفته عملاً فنياً شبه ثابت.
لطالما أظهر تاركوفسكي حساسية تجاه الأشياء والتفاصيل والديكورات وألوانها وإضاءاتها، داخل إطارات أفلامه، تكون ثابتة بشكل ونسبة محددتين، أو متحركة بتأثيرات خفية، أو خارج الأطر، كالريح أو الهزات أو قوى ماورائية تكون أقرب إلى قدرات ذهنية في التحريك أكثر مما هي فيزيائية. لكنها جميعها لا تنفي عن المواد المصورة ثباتَها، وإن تحركت في أمكنتها، فالثبات هنا يكون في إمكانية عزلها عن سياقها في الفيلم (فالتر بنيامين مجدداً وكذلك جون برجر)، أو فصل اللقطة عن السردية للفيلم، في إمكانية ذلك، فتكوّن صوراً فوتوغرافية مكتملة في ذاتها.

المشهد المعروض في الصالة كان من نهايات الفيلم، فتاة برأسها المنحني تتأمل كؤوساً على طاولة، بكاميرا ثابتة وأمامية، كذلك كأن مُشاهد اللقطة ناظرٌ إلى لوحة معلقة، تتأمل الفتاة الأشياء، وتركز في الرؤية وتحرك بما بدت قوى مغناطيسية، الكؤوس وتوقع أحدها عن حافة الطاولة. هو مشهد تاركوفسكي بامتياز، تأملي صوتاً وصورة، متمهل، غيبي لا مادي. هذه السمات في عموم أفلامه الأقرب للشاعرية البصرية، أعطت الأشياء ضمن اللقطات معاني تتخطى شكلها وحيزها الملموس، ما يحيلنا إلى «مسدس تشيخوف» المؤلف الروسي ذاته، فالشيء إن ظهر في المسرحية، ليكن مسدساً، لا بد له من معنى، باستخدام سابق له أو لاحق. لا تظهر الأشياء مجاناً. كذلك لا تكون الأشياء داخل إطارات تاركوفسكي دون معنى وتوظيف، كان جمالياً بصرياً أو سردياً سياقياً.

«وقت اللعب» 1967

للفرنسي جاك تاتي أسلوبه الخاص في السينما، ومواضيعه المنسجمة مع بعضها، هي سينما صامتة إنما كاختيار أسلوبي وليس تقنيا كما كان الحال مع كيتن، ويلعب الضجيج الميكانيكي والإلكتروني للحياة المعاصرة دوراً بارزاً فيها، وهي أفلام منتقدة بكوميدية ساخرة مفارقاتية، العصرَ الراهن واستهلاكيته. الفيلم هو الثالث ترتيباً في المعرض الذي تخطى ترتيبُ مقتنياته أزمنتَها، بل رُتبت على أساس أزمنة الأشياء فيها وليس المقتنيات/الأعمال، كأن الأعمال الفنية هنا حاملة للأشياء «الصامتة»، ليكون معرض اللوفر هذا معرضاً لعناصر الأعمال الفنية والأشياء داخل إطاراتها، لا للأعمال ذاتها، كأن المعرض يقدم الأشياء في وجودها لا في تصوير الأعمال لها، ما يمكن أن يفسر تعليق عبارات عن «الأشياء» من بينها للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا يقول فيها إن «الأشياء ليست دلالات، هي وجود»، فلا تدل على غيرها ولا يُدل بها على ما دونها، هي (الوردة في اللوحة مثلاً) كينونات في ذاتها، من بينها كان ما صورته الأفلام الأربعة في مَشاهدها القصير هذه.
بالعودة إلى «وقت اللعب» (Playtime)، صور تأتي سيطرة الأشياء في العصر الحديث على مستخدمها، لا العكس كما يمكن أن يتصور أحدنا هذه العلاقة. في المشهد يحاول تاتي الجلوس على كرسي بتصميمٍ معاصر غرائبي مصدراً أصواتاً كأنها تنبيهية كلما حاول الجلوس عليها، كأنها كراسي في متاحف فن معاصر لا يتوجب استعمالها (هي التي تستعمل الناظر إليها) بل تأملها عن بعد، فتخلع عنها وظيفتها العملية لتكون عملاً منحوتاً معروضاً للتأمل، كأنها مثبتة في زاوية في معرض في متحف اللوفر، بمعزل عن الفيلم. لا يستطيع تاتي الجلوس على الكرسي، بل نراه يتفحصه محاولاً اكتشاف منبع الصوت ومبرره، لكنه، أخيراً، يبدو زائراً في معرض هو في المشهد صالة انتظار في شركة، يتأمل الكرسي من جوانبه كافة. يسخر تاتي من المقاربة البورجوازية للأشياء في عرضها و»تقديرها» عن بعد، مقابل سبب وظيفي وعملي لهذه الأشياء يستعملها الإنسان وليس العكس.

«نقطة زابريسكي» 1970

هذا الفيلم (Zabriskie Point) المعاصر لثورات الستينيات في أوروبا، وحراكات الحقوق المدنية والمناهضة للحرب على فيتنام في الولايات المتحدة، قدم مشهداً أخيراً، انفجارياً شكلاً ومضموناً اختتم به المعرض الجولة، إذ كان معروضاً على جدار في نهايته.
تتخيل الشخصية الرئيسية للفيلم انفجاراً في فيلا بدت كالعمل الفني المعاصر، بكل أشيائها، في تفكيك/تدمير للسلوك الاستهلاكي لبورجوازية ازدحم نمط حياتها بأشياء تُستهلَك، تنفجر الفيلا وتتطاير مقتنياتها في السماء، وفي كل منها ترميز على الحياة المعاصرة، في توازٍ مع الثورات الاجتماعية التي شهدتها أطراف عدة من العالم في حينها (زمن صناعة الفيلم وزمن أحداثه).

انفجر المجتمع بتطاير الأشياء، وعلى موسيقى لفرقة «بينك فلويد»، امتلأت السماء بمعلبات وألبسة ومقتنيات وأثاث، وكلها، في حالاتها المتطايرة، بدت فائضة عن الحاجة، ملأت السماءَ بأشكالها وألوانها، كأنها عمل «بوب آرت» منفصل عن الفيلم، تماثلت مع جدارية مايكل أنجلو (الآخر) على سقف كنيسة سيستينا في الفاتيكان، حيث يتطاير الناس وتتداخل الألوان وكذلك في خلفية زرقاء هي السماء، وأنطونيوني هنا أكثر مما هو في مواقع أخرى، يذكرنا بقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في أنه «أحد الملونين الكبار في السينما « السينما: 1 الصورة الحركة، 1983.
يمكن للمعرض، «الأشياء»، أن يملأ صالاته بأمثلة من السينما، فالمسارات المفتوحة وبالاتجاهين، بين الأفلام والفنون البصرية، شاسعة، لكن الأفلام الأربعة المختارة كانت، بتنوع أساليبها السينمائية وثقافاتها ومقارباتها ولغاتها، إشارات إلى أن الفيلم، بحد ذاته، يمكن أن ننظر إليه بصفته عملاً فنياً حديثاً ومعاصراً.

*‏كاتب فلسطيني سوري