غاطس بامسلم
تُشير الساعة الآن إلى الثانية ظهرًا في عدن، والخروج لأي غرض كان في هذا التوقيت ما هو إلاَّ محاولة لرمي النفس في التهلكة. لكن ماذا لو كنت ممّن يفضِّلون ترك الأمور تجري كما تشاء وقررت الخروج في هذا الوقت الجحيمي للقاء أصدقائك في الطرف الآخر من المدينة؟ هذا هو أنا، ولم يكن أمامي سوى استقلال باص ركاب عمومي للوصول إلى وجهتي.
كان سائق الباص في حالة انتشاء كبير بفعل تناوله المتواصل لأعشاب القات، وتماهيه الكبير مع صوت أحمد قاسم المنبعث من مسجل الباص وهو يشدو بأغنيته الخالدة التي كتب كلماتها لطفي جعفر أمان:
“صدفة التقينا على الساحل ولا في حد
صدفة بلا ميعاد
جمع الهوى قلبين”
تزامن مدهش وغير متوقع حدث بدون تخطيط مسبق، فالصدفة في الأغنية صارت صدفة شخصية لي. الفنّان وجد ضالته في محبوبته، أما أنا فقد وجدت ضالتي في سماع الأغنية التي أعشقها بجنون، كما أنّها واحدة من الأغاني التي تحولت مع مرور الوقت إلى أيقونة غنائية عند أهل هذه المدينة، وأخذت كلماتها سبيلًا إلى لغتهم المحكية.
هذه “الصدفة” التي قال عنها ابن الرومي إنّ لها “جذورًا كامنة في العالم غير المرئي”، ويطلق عليها فولتير لقب “صاحبة الجلالة”، ولكونها تحظى بكل هذا الدلال من شرق العالم وغربه، سنجد كذلك أنها تتَلألَأ كذلك في الأغاني اليمنية بصورتها الشعبية وتجد لها سببًا وسبيلًا تلتقي به بالمخيلة الجمعية في أغنياتهم.
فهي لا تحتكم لوجودها في عدن فقط كما هو الحال في أغنيتنا السابقة، فلا جهات للصدفة ولا أرض واحدة لتحكمها في أغانينا، معها تستحيل قدرتنا على التنبؤ بها أو السيطرة عليها على مكان حضورها، فإن كان مكان التقاء الصدفة عند أحمد قاسم على ساحل أبين، فقد تغير المكان عند أبوبكر سالم:
“صدفة ويا ما احلى الصدف
لما لمحتك من قريب، على طريق البريقة”.
إذن، من الملاحظ أنّ المرء لا تجتاحه أي رغبة وفضول فيما هو متوقّع؛ المتوقع الذي يجعل اللحظة المُقبلة مُعدّة سلفًا، بل تجتاحه تلك الرغبة المُلِحّة والرجاء الكامن حينما تأتي لنا كصدفة مبهمة لا تفاصيل فيها، تأتي على حين غفلة وعلى غير انتظار أو توقُّع، لا نعلم مكانها ولا ندري في أي زمان قد يحين وقت وقوعها، أو يوم حدوثها كما هو الحال عند محمد سعد عبدالله:
“يوم الاحد في طريقي بالصدف قابلت واحد
غصب عني سرت بعده سرت ما هميت واحد”
وما يجعل الصدفة مبهجة بهذا القدر، هي قدرتها على مباغتتنا فجأة؛ ممّا يجعل منها مبعثًا سحريًّا يدب الوهج في روح المرء كفرح الأشجار بالمطر، أو حين يدب الفرح في البكور الاستثنائية التي تكون الصدفة ملحها الحقيقي عند أيوب طارش:
“صدفة من الصبح لاقيته وهو يجري
وقلت له خفف السرعة عليك بدري
وقّف شاقول لك: صباح الخير يا قمري
على الحلَا والتحافة كم شكون صبري”.
وإن كان أيوب كما نرى كان جادًّا في حثّ محبوبته على تخفيف سرعتها، خوفًا من عدم تكرار هذه الصدفة، فهو بذلك يخالف سمتها الرئيسية وفعلها الجوهري الذي يخالف القصد ويقطع في الثوابت، فإن أدركت كلَّ ما سبق فقد تتكرر كما تكررت مع محمد صالح العزاني:
“ذكرت لقيانا ياللي غرامك زاد
لمّا تـلاقينا صدفة بـلا ميعاد
وقلت لي كلمة / مصحوبة بالبسمة
والجو خالي من الحُسّاد”.
الصُّدفة قد تكون جميلة، مُفرحة كما رأينا وقد تكون خلاف ذلك محبطة، مثيرة للقلق، وقد تتحول إلى كابوس يقضُّ مضجع أحدهم، يرافقه في صحوه ومنامه، كما هو الحال مع أحمد السنيدار:
“صدفة التقينا وفي لحظة تهاوينا
واحنا عشقنا وبالأرواح تفادينا
وبالورود الجميلة كم تهادينا
ثم افترقنا وودّعنا أمانينا
قلبي توجع ومن بين الضلوع مفقود
خلّي قتلني بلا شاهد ولا مشهود
وفوق هذا أنا المتجني المنقود
من قال لابي اهواه وولِّع فؤادي به”.
نقلاً عن منصة “خيوط”