يسترجع متحف فرنسي رسوم الفنان الكاريكاتيري الإيطالي الكبير ليونيتو كابييلو في معرض شامل، مقدماً أبرز المراحل التي اجتازها والتي من خلالها أسس مدرسة فنية فريدة.
لا يوجد فن عظيم الشأن وفن قليل الشأن، فالعمل الفني هو الذي يحدد قيمته بذاته، مهما كان الفن الذي ينتمي إليه. والدليل؟ رسوم الفنان الإيطالي ليونيتو كابييلو (1875 ــ 1942) التي تنتمي إلى فني الكاريكاتير والملصق الإعلاني، لكن ذلك لم يمنعها من مضارعة أرقى الأعمال الفنية سواء بفتنتها أو بتعدد دلالاتها. أعمال يمكننا اليوم تذوق مختارات واسعة منها في المعرض الضخم الذي ينظمه حالياً لصاحبها “متحف لوي سينليك” في مدينة إيل دان الفرنسية، ويهدف إلى إظهار كيف تمكن هذا الفنان برسومه من نزع نظرة الاستخفاف عن فن الكاريكاتير التي كانت ــ ولا تزال ــ تلقى عليه، ومن خط بورتريه دقيقاً وآسراً في الوقت نفسه، لباريس الفن والأدب خلال تلك الحقبة المجيدة التي تعرف بـ”العصر الجميل”.
“في كل إنسان مهما كان سمتان أو ثلاث سمات ظاهرة تلخصه. وموهبة كابييلو تكمن في عزله إياها وإبرازها، مثلما يستخرج الجواهري الماسة من قالبها الخام ويصقل معالمها”، كتب الناقد الفرنسي أدولف بريسون في “المجلة المصورة” عام 1903، مضيفاً: “بمجرد أن يلاحظ هذه السمات المميزة، يعمد إلى تنقيتها عبر إزالة تدريجاً كل ما هو غير ضروري، فيتمكن من منحنا صورة موجزة عن الأصل، لا ينقص فيها أي شيء أساس، ولا يتبقى أي شيء عديم الفائدة”. موهبة نادرة إذاً تفسر من دون شك لماذا لم تفقد أعمال هذا الرسام أي شيء من سطوتها، على رغم مرور الزمن عليها وانتهاء فصل “العصر الجميل” منذ قرن تقريباً.
مسار معرض كابييلو الحالي يتركز على ثماني سنوات من إبداعه، منذ استقراره في باريس عام 1898، في سن الـ23، إذ صنع بسرعة اسماً لنفسه عبر رسم بأسلوب كاريكاتيري فريد كل شخصيات زمنه الشهيرة، خصوصاً تلك التي لمعت داخل عالم المسرح. رسوم وجدت طريقها بسرعة إلى أهم الصحف، وما لبثت، بفضل النجاح الذي لاقته، أن نشرت في ألبومات خاصة، قبل أن يهجر صاحبها فن الكاريكاتير، انطلاقاً من عام 1905، لتكريس وقته كلياً لفن الملصق الإعلاني المصور، فيصبح بالسرعة نفسها أحد أهم رساميه في مطلع القرن الـ20.
في الصالة الأولى من المعرض، نرى كيف اهتم كابييلو بمجتمع الفنون المشهدية، والمسرح على وجه الخصوص، فور وصوله إلى باريس، تاركاً لرسامي الكاريكاتير الآخرين في المدينة مهمة السخرية من أخلاق زمنهم وشخصياته. نرى أيضاً كيف تمكن، منذ أن حط في عاصمة “الأنوار”، من تمييز نفسه عن “زملائه” في المهنة، بأسلوبه الذي تتجلى كل صفاته في البورتريه الذي رسمه عام 1898 للممثلة المسرحية الشهيرة آنذاك، ريجان، ونشر على الصفحة الأولى من صحيفة “الضحك” الساخرة. أسلوب لا يكفي أن نذكر خطه المصفى وألوانه المسطحة لتفسير فتنته، لكنه يقف خلف النجاح السريع الذي حصده صاحبه، وأدى إلى جمع رسومه في العام التالي داخل ألبوم بعنوان “ممثلاتنا” تتجاور فيه بورتريهاته لنجوم المسرح الكبرى (ساره برنار، مارت برانديس، أندريه ميغار، مارت ميلو…) مع تلك التي رصدها لممثلات صاعدات. رسوم تظهر قامات تلك الممثلات فيها محاطة بخط أسود رفيع وواضح، ومعززة بألوان زاهية مسطحة، وركز كابييلو فيها على الوقفة الخاصة لكل ممثلة، وطبعها، من دون أي ديكور أو تفصيل زائد في التشكيل، واضعاً خطه الرشيق كلياً في خدمة شخصيتها، فتغنى النقاد بأسلوبه التشخيصي الساحر بقدر ما هو دقيق، وأطلقوا عليه صفة “سيد الكاريكاتير”، ولم يكن قد تجاوز بعد سن الـ24.
ولا نعجب من هذا التوصيف حين نتأمل في رسوم الصالة الثانية الراقصة اليابانية سادا ياكو تفتن جمهورها في “المعرض الدولي” لعام 1900، أو أندريه ميغار مجسدة بشغف دور “لا كونتا” في مسرحية رومان رولان “الـ14 من تموز”، أو لوسيان غيتري السمين محاوراً سوزان ديبري الهزيلة في المسرحية المقتبسة من “الخمارة” لإميل زولا، أو أليس بونور مغتبطة بمغازلة النزوي ماكس ديرلي لها في مسرحية مارسيل بريفو “شونشيت”… فلا ملامحهم، ولا إيماءاتهم ولا تعابير وجوههم تفلت من عين كابييلو الذي خلدهم بحس الحصيلة الذي لا يضاهى لديه.
وفعلاً، لا يتوقف الفنان في هذه الرسوم عند لحظة معينة من أحداث مسرحية ما، بل يكثف بقاماته الرشيقة كل ما يميز أولئك الذين كانوا ناشطين في مختلف الفنون المشهدية، كمسرح البولفار والميلودراما والتمثيل الإيمائي الصامت، والباليه والأوبريت. وقيمة عمله هي التي دفعت مجلة “المسرح” عام 1903 إلى نشر النسخ الملونة لـ33 بورتريه ممثل وممثلة ومخرج وكاتب (جورج فيدو، لوسيان غيتري، مارت برانديس، بولير…) أنجزها كابييلو بالحبر الأسود في البداية، وصدرت في “الصحيفة” و”لو فيغارو”. وعلى غلاف هذا العدد، يحضر بورتريه تكريمي لساره برنار بذراعين مفتوحتين أمام جمهور مفترض.
في الصالة الثالثة، نعرف أن “مسرح المنوعات” (أو ميوزيك هول) كان من أكثر الفنون المشهدية إغواءً في باريس، حين استقر كابييلو فيها، وأن إحدى أكبر نجماته آنذاك كانت إيفيت غيبير التي اشتهرت بذلك التناقض بين أناقتها وذخيرتها ذات النبرة السوقية الفظة. نعرف أيضاً أن الممثلة لويز بالتي بدأت مسيرتها على خشبة مسرح “لا سكالا” بتقليد غيبير، قبل أن تنفرد بمواهبها، والممثلة بولير كانت تمارس فتنتها بغنائها وأدائها المسرحي، ولمعت تحديداً في مسرحيتي “لو فريكي” و”الشاب الصغير” للكاتب ويلي. فنانات تابع الرسام مسيرتهن عن قرب، ولم يكتف برسمهن، بل أنجز بالأسلوب الكاريكاتيري نفسه منحوتة لكل منهن.
وفي الصالة الرابعة والأخيرة من المعرض، تحضر البورتريهات التي رصدها كابييلو لأدباء زمنه، من أوكتاف ميربو إلى بيار وولف، مروراً بجان ريشبان وكاتول مينديس وغيرهم. شعراء، روائيون ونقاد شكل ارتباطهم بالمسرح قاسمهم المشترك، وكما في بورتريهاته الأخرى، لم يحتج الرسام إلى أكثر من بضعة خطوط لتجسيد طبيعة كل منهم والتقاط سماته الأكثر تمييزاً، كطيبة بول آدم الظاهرة على وجهه، أو كآبة جورج فيدو المصبوغة بسخرية لطيفة، أو طبع موريس دوناي المشاكس والجفول.
ومن جميع رسوم كابييلو المعروضة حالياً، يتراءى لنا أسلوبه الخاص الذي يمكن التعرف إليه من النظرة الأولى، ومكنه من تعقب واصطياد الطاقة الفجة لشخصيات “العصر الجميل” الفنية والأدبية، وطباعها الفريدة. أسلوب لا يلح على العيوب الجسدية للشخص المرسوم، بل يسلط الضوء على ماهية حضوره. نستنج أيضاً في هذه الرسوم أن كابييلو الشاب والمولع بالمسرح، كان يتردد بانتظام على صالاته الباريسية، ثم يقفل عائداً إلى محترفه للعمل على ما خطه قلمه أثناء العروض، أو في الكواليس.
نستنتج أخيراً أنه لم يستخدم فنه قط كسلاح للنقد والتجريح، بل نبذ الأذى منذ بداية مسيرته وأسس لرسم “جوهري” يترجم الخط فيه بحيوية مدهشة ما تراه العين.