تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » قراءة الفن: الغاية والكيفيّة

قراءة الفن: الغاية والكيفيّة

قراءة الفن: الغاية والكيفيّة

 

“ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.

… عرّف الفن الكثير من المفكرين والفنانين، لكنهم اتفقوا على صعوبة حَدّه حدًّا جامعًا مانعًا، لاتساع مشموله وتعدد مشاربه، فيبقى على أفقه الواسع يطرد مع تعدد وسائل التحصيل تتعدد المنتجات الفنية التي يُتحصّل منها.

لماذا نقرأ الفن؟

صَحِب الفنُّ الإنسان منذ عهوده الأولى، حين كان في قبضة البداوة مقيمًا في الكهوف. وكانت رسوم الأوائل تُشيد بالقوة وتعتبر منابع الخصب في الحياة. قال إيلي فور: «إذا كان الموت يتربّص بالإنسان في آخر المطاف، فإن على جانبي الطريق ما يُسربل الحياة بالجمال». أجل، إن الفن قلبٌ خافقٌ في صدر الموت!

تعزيز الجمال: تبحث الفلسفة ثلاثة قيم أساسية تعود إليها كل تفاصيل الحياة والعلم، وهي: (الحق، الخير، الجمال). الفن وجد لكي يوظّف فينا الشعورَ بالجمال. وإن كان بعض الاتجاهات الفنية المعاصرة تحاول سحب البساط من العلم وإضفاء الصبغة الرسالية للفن وعدم الاكتفاء بنشر الجمال في الكون، فهذا لا ينقص من دورها في ذلك، كما يقول أشهر فيلسوف مُتأخِّر عُنيَ بالبحث في المفاهيم والتجربة الفنية وعمل على فك شفرتها هو أرثر دانتو بأن «س هو عمل فني إن كان يُجسِّد معنى». هذا التعريف لماهية العمل الفني مُلْفِت لأنه لا يذكر «الجمال»، وهو الشيء الذي كان يُعد الغرض الجوهري من الخلق الفني. يحتفي دانتو بأن الفن قد تجاوز أخيرًا تحديد الغرض منه في خلق الجمال، بعد استباحة مفهوم الجمال طوال تاريخه.

الطمأنينة: الفنون الجميلة تشترك جميعها في عنصر الإبداع الشخصي الحر أو عنصر الشخصية، وفي تجرّدها من الغاية العمليّة، وفي كونها مبعث رضا وارتياح ومصدر إيجاب شعوري. يقول بودلير: «الروائع الفنية أفيونٌ إلهي للقلوب الفانية». ويقول الناقد الفني جيمس إلكنز: «اللوحات ألغاز نجد أنفسَنا مُجبرين على حلّها من أجل أن نخفف عن أنفسنا ونستريح من بعض مظاهر الحيرة في هذا العالم».

تغذية المشاعر: يبحث الإنسان في مختلف تصرفاته إلى تغذية بعض الأحاسيس والمشاعر التي تختلج صدره، وكلّ شخص -بحسب خلفيته الثقافية وبيئته- له مصادره الأولية والثانوية في تغذية هذه المشاعر، وقد يلجأ من لم يجد منبعًا تعيش عليه مشاعره إلى إهمالها أو التنكّر لها؛ فتودي به إلى مآلات لا تُحمد. الفن منبع خصب لإغناء مختلف المشاعر التي يعتورها الإنسان بين جنباته، وكما يقول جورج إليوت: ‏«إن لم يوسّع الفنّ حدود التعاطف الإنساني، فلا نفع له من الناحية الأخلاقية». فليس الجمال وحده الذي يُنال من الفن، ولعل هذه النقطة تُجيب عن سؤال لطالما أثار انتباهي عن سبب انجذاب الناس إلى الفنون الحزينة المليئة بالسوداوية والألم رغم امتلاء حياتهم بالأفراح والملذات؟ نصيب الإنسان من مختلف المشاعر مكتوب له ومقدّر، لكنه يختلف في كيفية استيفائه في هذه الحياة، فالشعور بالحزن والألم سمة إنسانية أصيلة، تحتاج إلى إشباع، فتأتي الفنون لتغطي هذا النقص في الحياة الواقعية لهذا الشخص. كما أنه خير معمل لتجربة ردات الفعل تجاه الأحداث، فالمشبع بالفنون بمختلف وسائطها لديه اطلاع بسيناريوهات الأحداث والتصرفات المتوقعة الناتجة عنها، فتساعده في اختيار الأنسب منها عند وقوعها عليه.

التفرّد: حيثما ظهر العلم فهو يكتشف المتماثل، المتناغم، الساكن الدائم. أما الفن هو نشوء جديد على الدوام. العلم يكتشف، أما الفن فيبدع. إن ضوء النجم البعيد الذي اكتشفه العلم كان موجودًا قبل اكتشافه. أما الضوء الذي يلقيه الفن علينا، فقد أبدعه الفن بنفسه في اللحظة نفسها. فبدون الفن لم يكن لهذا الضوء أن يولد[4]. فالمعرفة الفنية هي معرفة ذاتية، تؤخذ بالممارسة والخبرة والتماهي بالموضوع. «الممارسة وحدها تستطيع الإجابة عن أسئلة القلب. وهي ليست أن ترى كيف تقفز الشرارة من جيل إلى آخر، وإنما أن تقفز وتحترق معها». أما المعرفة العلمية فموضوعية من الخارج، تُدرك بالحواس، وتجري في المختبرات من وراء مجهر ومن خلال عدسة، وتقيم البراهين وتضع القوانين، سواء كان ذلك القانون مما عاناه المرء أم لا. لهذا تعزز الفنون تفرّد القارئ لها، العارف للإبداعات الخاصة غير المتكررة في العلم، ما يقرأه شخص في الغرب في مجال علمي، هو عينه الذي يعرفه الآخر في الشرق. لكن الفن ذاتيّ الخلق، ذاتيّ الأثر. ولو تشارك الكثير في قراءة لوحة لما خرجوا بنفس الدلالات، كما يحصل لهم عند دراستهم لمبحث علمي بنفس الكفاءة. يقول هيرمان هسه: «الغريب مع الحب -وكذلك مع الفن- أنه قادر على القيام بما لا يمكن لأي تعليم، أي فكر، أي نقد، أن يقوم به. إنه يربط بين ما هو أبعد، ويُجاور بين الأقدم والأحدث. يتغلّب على الزمن عن طريق ربط كل شيء بمركزه الخاص. هو وحده يمنح الأمن، وهو وحده على حق؛ لأنه لا يريد أن يكون على حق».

تعلّم الإنصات: تأمل الفنون تجربة صاخبة بالصمت. فالصورة لحظة صمت طويل. إنها كالرسم، تجربة في الصمت. والرسامون أبناء الصمت، والمصورون أبناء الصبر. وقراءة اللوحة تجربة في الصمت: القارئ صامت، والمتلقي صامت، والرسام صامت. وكذلك بقية الفنون تتطلب قدرًا كبيرًا من الصمت في التعاطي معها، في الإنصات لها حتى تُسمع صوتها الصامت. إن لكل ما في الوجود صورته الموحية ولغته المعبرة ولو بالصمت العميق. كل شيء في هذا العالم يتكلّم إذا وُفّق بمن يُصغي إليه إصغاءً حقيقيًّا. كل ما في هذا الكون “يقول” لكن أين من يُنصت؟

التكامل المعرفي: بين الفنون صلة رحم وإن اختلفت الوسائط. فتشترك في التعبير عن مضمون واحد، أو توضّح فن من الفنون معنىً أو موضوعًا سبق التعبير عنه بفن آخر، على نحو ما عبّر بيتهوفن عن القيم الإنسانية المطلقة حين حوّل قصيدة شيلرر «نشيد للفرح» إلى لحن «السمفونية التاسعة» التي تُقارن لعالميتها بالموناليزا لدافشني في التصوير، وبالأم الحزينة لميكل أنجلو في النحت. وقد عقد كانط فقرة حول اجتماع الفنون الجميلة في نتاج واحد، كاجتماع الشعر مع الموسيقى في الغناء، فيكون الفن الجميل عندئذ أكثر فنًّا. وليس أدلّ على القربى بين الفنون من أن نقول: «هذه اللوحة ناطقة بشعر موزون، وتلك القصيدة لوحة تامة التلوين، وهذا الرقص موشّح أندلسي، وذلك اللحن كاتدرائية تسبح في الفضاء». أجل، إن الفنون تتشابك وتتعانق وتتعاشق، وتكون ثمرتها فهم العالم، والإحساس بالحياة، واستنهاض الذات.

كيف نقرأ الفن؟

خرجت من زيارةٍ لمتحف اللوفر بأبوظبي، وأنا أراسل أحد الأصدقاء فيسألني عن المدة التي قضيتها في أرجاء المتحف، قلت له أن الزيارة استغرقت ثلاث ساعات، رغم أني كنت على عجل ولم أتفحّص كل مرافق المتحف ومقتنياته، استنكر كل هذا الوقت على بضع لوح ومجسمات وتحف أثرية لا جمال فيها ولا فائدة، وكان الأولى بي أن أقضي الوقت في غيره من الأماكن.

أنهيت الحديث وأنا أتذكر حديث الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل لكروا في كتابه الرائع «عبادة المشاعر» وهو يحلل إحدى ظواهر الإنسان المعاصر التي صبغت تفكير صاحبي فأدته إلى ذلك الاستنكار. ظاهرة اهتمام الإنسان المعاصر بالمشاعر التي تتميز بالانفعالية أكثر من الأحاسيس التي لها طابع دائم، مما يجعله في حالة تهييج دائم للحواس، لا يستطيع العمل دون تشغيل خلفية صوتية تخفف حدة الصمت، ولا يستطع المكالمة الهاتفية بدون إشغال العين بالنظر إلى التلفاز أو الجوال، مهووس بالسفر حول العالم بهدف استخراج أقصى ما يمكن من الأحاسيس، وما يرافقه من التجارب الخطرة كمغامرات المناطق القطبية أو ركوب الأمواج أو تسلق الجبال، فـ«العالم لا يمثل عند مغامرات الخطر سوى منجم لأحاسيس جاهزة للاستهلاك، وخزان لعروض مثيرة للمشاعر القوية».

يُلخّص ميشيل لكروا حياة الإنسان المعاصر بأنها تعاني من «اختلال راجع إلى الإفراط في مشاعر الصدمة والنقص في مشاعر التأمل». ويختم الكتاب ببعض الحلول التي قد لا ترقى لمعالجة وافية للمشكلة، لكن تساهم في ترشيد استخدام المشاعر، وأول هذه الحلول: التأني في الاستفادة من الأشياء وعدم العجلة في استهلاكها، فـالإنسان الذي يتمهل في فعل الأشياء يمكنه أن يستخلص العصارة الشعورية في نفس المكان والزمان، أن يتذوق من نكهة الحياة ويستفيد من المشاعر الناعمة للحاضر. إنه يتعرض أقل لخطر الإحساس بالإحباط في المساء، الذي يتضح من العبارة القاسية لفونتونيل: «أيتها السعادة لم ألحظ وجودك إلا عندما سمعت صوت هروبك».

اللوحة تبقى في دواخلنا وإن غابت عن أنظارنا، فالرؤية الحسية المتعلقة باللوحات تنقل تأثيرها إلى العقل والإحساس؛ تعجبنا اللوحات وتأسرنا ولا نتحرر منها، لذا وإن غابت عنّا تبقى ظلًّا يرافقنا، يؤثّر فينا لأن أثر الفن يجب ألا يكون آنيًّا نتحرر من تأثيره متى غاب، بل إن الفن الأصيل يترك بصمته ولا يؤثّر في انفعالاتنا فحسب، بل في أعماقنا أيضّا، لأن «خاصية الفن أن يُغيّر الطبيعة» كما يقول دني هويسمان، وهكذا تغدو المتاحف الفنية متاحف داخلية.

يُعرّف لالاند في موسوعته الفلسفية الفن بقوله: «إنتاج الجمال من خلال أعمال كائن واعٍ». ولمّا كان الكائن الواعي يسعى إلى إنتاج الجمال، كان لا بد من أن يبحث عنه في الجمال الطبيعي المحيط به، أو في ذلك الجمال الذي صنعته وأبدعته يد فنان ماهر. من هنا كانت عملية اللقاح والتأثر والتأثير التي يخضع لها الفن، وهذا التأثر يشمل الفن كله ولا يختصّ بنوع عن آخر. الفن الراقي هو الذي يثير في الرائي التذوق والإبداع أيضًا، فليس فنًّا ذلك الذي نراه أو نسمعه أو نقرأه ولا يولّد فينا إحساسًا خلّاقًا.

لن يكون الأثر مستدامًا إلا أخذت العين حقّها من النظر، ونالت الأذن نصيبها من الاستماع، لأن «العين عمياء عندما تتحرك، وهي ترى عندما تقف»[7] والقراءة العابرة لا تترك إلا أثرًا عابرًا. وربما احتجت إلى تكرار النظر، لأن «في إعادة القراءة ما يوقف الخيال ويخصب القارئ فيكتب بدوره ويبتكر».

ليس هناك أسباب خاطئة وأسباب صحيحة في الإعجاب بعمل فني، قد يُعجب أحدهم بلوحة منظر طبيعي لأنها تذكره بمسقط رأسه، وقد يُعجب بلوحة لأنها تذكره بصديق له. فكلنا عندما ننظر للوحة ما نتذكر مئة شيء وشيء تؤثر فيما نحب وما نكره، وما دامت هذه الذكريات تساعدنا على التمتع بما نرى ومحاولة فهمه والاستفادة منه، لا ضرورة للقلق. نحن لا نحتاج إلى البحث عن سبب النفور الذي يفسد متعتنا التي كان يمكن أن نشعر بها في ظرف آخر، إلا حين تجعلنا ذكرى غير متصلة بالموضوع نتحيز، حين نُعرِض بالفطرة عن لوحة منظر جبليّ لأننا نكره التسلق. إن هناك أسبابًا خاطئة للنفور من عمل فني. هذه القناعة تعالج إشكالية الصراع الأزلي حول مفهومي الجميل والقبيح في الفن، والذي لم يهدأ ولن يهدأ، فبعد أن كان الهدف الأول للفن هو التعبير عن الجمال، أتى فريديريك شليغل ليجعل «القبيح هو الميزة الغالبة والكلية للطابع، للفرد، للمثير للاهتمام، للبحث الذي لا يَقنع ولا يَرضى بأي جديد، للّاذع، وللمذهل». فالتقييم الفني ذاتيٌّ بحت، لا عبرة له بالنظريات ولا بالمدارس الفنية.

إن تعلّم الفن لا ينقضي، هناك أشياء جديدة دومًا على المرء أن يكتشفها. وأعمال الفن العظيمة تبدو مختلفة في كل مرة نقف أمامها، تبدو غير قابلة للنضوب، ولا يمكن التنبؤ بها كما هو حال البشر في الواقع. لا أحد ينبغي أن يظن أنه يعرف كل شيء عنه، إذ لا أحد يعرف. وربما لا شيء أكثر أهمية من التأكيد أنه حتى نستمتع بهذه الأعمال يجب أن يكون لنا عقل جديد، عقل مستعد لالتقاط كل إشارة، وللاستجابة لكل توافق مستتر، وألا يكون العقل مزدحمًا بالألفاظ الطنانة الطويلة، والعبارات الجاهرة، والأحكام المعلّبة. إن عدم معرفة الفن خير من نصف المعرفة المؤدية إلى الادعاء.

يقول الفيلسوف آلان: «يجب ألا نحكم على الرقص ما دمنا لم نتعلم كيف نرقص». إن الفن الحقيقي متفلّت من عقال الدين والسياسة والأخلاق، حاملٌ شعلة التمرد والثورة، عرّاب للعصر الحديث، مكتشف للمستقبل، فعلُ انفصال عن الطبيعة والحياة، وقفزٌ على نسيج الرتابة الباردة حد الموت إلى توقيع جديد مفعم بالانفعالات، وإعادة تشكيل الحياة.

الفن والفنان يسعيان لاستكشاف الحياة المتجددة سعيًا متجددًا، انطلاقًا من نظرة نقدية للماضي، في حين أن الآيديولوجيا تنزع إلى التمحور على عقيدة معينة ترفض الشك أو النقد وتخطئ من يخالفها، فتبتعد عن الحياة الواقعية. إن «الفنان نقيض الإيديولوجي، والفن معاد للآيديولوجيا».

يمارس بعض المنتسبين لشيء ما هذا العمل خوفًا عليه من الزوال، أو يتبنى أحدٌ رأيًّا معيّنًا حمايةً له من الاضمحلال، لكن الفن ليس بحاجة إلى هذا، سئل ميشال بوتور عن أهمية الرسم عنده، فقال: «إن الرسم ليتدبر أمره بدوني، أما أنا فلا يمكنني أن أتدبر نفسي بدونه». ويقول شكسبير في السونيت 18: «ما دامت للبشر أنفاس تتردد وعيون ترى، سيبقى هذا الشعر حيًّا، وفيه لك حياة أخرى».

من تجارب قراءة الفن الرائعة ما قام به الدكتور جوزف طانيوس لُبّس في ثلاثيته عن لوحات القراءة، والتي بدأها بكتابه «لوحات إن حكت» ثم كتاب «تقاسيم على وتر منفرد»، ثم كتاب «ترنيمة العندليب الثالثة»، وسيصدر له قريبًا كتاب عن قراءة التحف الفنية. ويقدّم تجربته في طريقة قراءة اللوحات في مقدمة ونصوص كتابه الأول: «أتأمل اللوحات، وأحاول من جديد بناء الحياة، لكي تحكي اللوحات حكاياتها»، وأحيانًا «بعض اللوحات لا ينطق، ولكنّي أُسرّح فيه النظر وأُقلّب الطرف، فلا يلبث أن يعلن عن أسراره وينكشف». لذا على القارئ أن يتحلّى بالصبر ليفقه المراد من النص أو اللوحة، فالمعاني «ليست منثورة في الهواء». أو كما يقول شوبنهاور: ينبغي علينا أن نتعامل مع العمل الفني كرجل عظيم، نمتثل أمامه وننتظر بصبر حتى يتفضل بالكلام! وينصح قارئ أعماله التي هي قراءات في لوحات: «انظر اللوحة، ثم ارفع عينيك واقرأ النص، ثم سرّح نظرك بين النص واللوحة، وبين اللوحة والنص، بلا كلل ولا ملل. ولك بعد كل هذا، أن تختار كيف تقرأ الكتاب، من غير أن يغيب عن بالك أن من يعرف أن يرى قليل»، لأن «الرؤية جزاءٌ لا نعمة»، ولأن البصر تابع للبصيرة.

حتمًا «اللوحة تبحث عن إحساس يقولها، أو كلمة تكونها»، وسواء بدأت بتفحّص اللوحة ومحاولة استنطاقها كما ينصح الدكتور ستيفن غامبارديلا، أو قرأت النبذة التعريفية المكتوبة بجوار كل لوحة باعتبارها غلاف كتاب لابد من قراءته قبل تقليب صفحاته، ستحتاج إلى إدراك الحالة الثقافية والخلفية التاريخية للفنان وللعصر الذي رسمت فيه حتى تكون قراءتك لها أكثر ثراء وأقرب إلى المدلولات المراد إيصالها. يحكي الشاعر الألماني الأول غوته في قراءة الفن: «حصل معي ويحصل أن عملًا من الفن التشكيلي قد لا يعجبني أول وهلة، لاني ربما لست من مستواه، ولكني إذا رجوت فائدة منه عدت إليه وعالجته من جديد لأفاجأ باكتشافات سارّة: أكتشف في هذه الأعمال صفات جديدة، وأتبين قدرات جديدة لديّ». وبعد هذه التجربة أصبح على قناعة أن «هناك درجات معيّنة في كل أنواع الفنون يمكن لكل امرئ أن يدركها بفطرته وغرائزه الطبيعة. بعبارة أخرى: يمكن أن يصل إليها وحيدًا، إلا أنه من المستحيل له أن يتجاوز هذه الدرجة إذا لم يمدّ الفن نفسُه يد العون له».

إن الفن ليس إبداعًا للجميل فحسب، خصوصًا إذا اعتبرنا أن نقيض الجمال ليس هو القبح وإنما الزيف. إننا لا يمكن أن نصف بالجمال أقنعة ساحل العاج، ولا التماثيل الصغيرة التي لا عيون لها. فهذه كلها تعبير عن البحث الأصيل للحقيقة، لأنها تمثل شعورًا جوانيًّا، اتحادًا بحدث كونيّ يتعلق بمصير الإنسان، إنها ببساطة شعور بالتسامي. على ضوء هذا يمكننا أن نفهم جماليات لوحات الحروب والمآسي وقول أبولينير في هذه العبارة الجريئة: «يا الله! كم هي الحرب جميلة». فهي كلها تعبير عن الحقيقة، عن المشاعر الصادقة، بعيدة عن الزيف، رغم ما فيها من قبح. ويلخّص هذه الفكرةَ بيكاسو بقوله: ‏«الفنّ هو الكذبة التي تتيح لنا إدراك الحقيقة».

الفن أثر الذات فيما يقدّم الفنان، فهو يصور الحقيقة كما يراها ويشعر بها، فـ«الحقيقة التي تظهر في الفن وبه، ليست الحقيقة العارية بل الحقيقة مصححة ومنقحة… ولو كان الفن مشابهًا للواقع لانقطع الفن عن أن يكون فنًّا».

مناظر الأزهار والأنهار والجبال جمال طبيعي، والفنون الكلامية والصورية والصوتية جمال فني؛ وإن كان علم الجمال يعنى بالثاني فقط، إلا أن الفن يحتضنهما معًا والأولى الاستمتاع بقراءتهما جميعًا، وليس كما يقول شارل لالو: «إن الطبيعة ليس لها قيمة جمالية إلا عندما تنظر إليها من خلال فن من الفنون، أو عندما تكون قد ترجمت إلى لغة أو إلى أعمال أبدعتها عقلية أو شكلها فن وتقنية». فهو ينفي عنها صفة الاستطيقا فقط وليس صفة الفن والجمال.

والفن رغم كل ما يقدّمه من فوائد ‏ كأن تجعل الإنسان أكثر وعيًا وأكثر شجاعةً وأكثر إحساسًا؛ وبالتالي حساسيةً، بالظلم والقهر والغبن، كما يقول عبد الرحمن منيف، وأن تدفعه لعمل شيء ليكون هذا العالم مكانًا يليق بالإنسان، إلا أنه يجب أن يُعطى قيمته الحقيقة، وعدم اعتباره حلًا لكل مشكلات الإنسان فليس «الكون في هيئة الفن» كما يقول شيلينغ، فهو رحمة تمدنا بالانفعال الجمالي الذي يرمم ضعفنا البشري، لكنه -كسائر اللذاذات- لا يمكن أن يصلح العالم إذا رفعناه فوق منزلته، وبالغنا في إسباغ القداسة عليه.

ختامًا، أكثر ما يعيق عن قراءة الفن هي النظرة النفعية التي نتعامل بها مع الأشياء من حولنا، وكأننا في قاعة محاكمة مستمرة، لا نرضى أن تضيق أوقاتنا فيما لا فائدة مادية مباشرة واضحة من وراءه. ينبغي أن ننظر إلى العالم والموجودات نظرة استمتاع بوجودها في حد ذاته. ولن تكون حياتنا كاملة إذا ظل كل شيء بالنسبة لنا مجرد أداة، بل لا تستحق الحياة أن نحياها إن لم يتخللها فترات يركن فيها العقل إلى السكون. حينها تكون الحياة أكثر رحابة والنفس أكثر إقبالًا عليها.

نقلاً عن منصة “معنى الثقافية”