تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » حلمي التوني… سيرة فنية عامرة بالمنجز الإبداعي

حلمي التوني… سيرة فنية عامرة بالمنجز الإبداعي

حلمي التوني… سيرة فنية عامرة بالمنجز الإبداعي

 

في رحيل الفنان المصري حلمي التوني، مطلع أيلول/سبتمبر 2024 تكون الحركة التشكيلية العربية قد فقدت أحد أعمدتها بإبداعاته المتميزة. الراحل حلمي عبد الحميد أحمد التوني المولود عام 1934 في مدينة بني سويف، شكّلت أعماله ركيزة رسمت ملامح الهوية المصرية. كان والده مهندساً للطرق والجسور، توفي الأب وابنه لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، فترك أثراً كبيراً في تحول حياته من التمرد في المدرسة إلى الطالب المثالي المتفوق.
التحق بكلية الفنون الجميلة عام 1953، كانت فترة الدراسة له من أجمل فترات حياته. ارتبط بالصحافة منذ عام 1956، هذا الميدان بالنسبة له هو المكان الأرحب لمخاطبة جمهوره، والتأثير في ذائقتهم، عمل في مجلة «الكواكب»، ثم تولّى الاشراف الفني لمجلة «المصور»، ثم مشرفاً فنياً على مطبوعات دار الهلال، رسم للأطفال في مجلتي «سمير» و»ميكي»، ووضع مشروع المجلة الطبية «طبيبك»، وأسهم في إخراج مجلة «المسرح والسينما».
تصدّر التوني مشهد مبدعي ميدان تصميم الأغلفة والمطبوعات، وصناعة الكتاب والإخراج الصحافي، هذا المجال الذي بدأه الرائد عبد السلام الشريف مروراً بالفنان عبد الغني أبو العينين، والراحل حسن فؤاد وغيرهم. إذ انصرف للعمل مشرفاً فنياً في دار الهلال، يصمم الأغلفة ويخطط الرسوم الداخلية، هجر الرسم بالزيت بعض الوقت واتّجه تماماً للنشاط الغرافيكي، بعد أن نال العديد من الجوائز في المسابقات العامّة التي تقيمها معارض الفن. أسهم التوني مساهمة نشيطة في النهوض بهذا الفن واستطاع أن يؤثر بشكل واضح على مستوى الإخراج الصحافي في العالم العربي، وتشاء الظروف أن ينتقل إلى بيروت عاصمة الثقافة والنشر يومئذٍ، هناك نضجت تجربته، وارتقى بمهاراته الفنية الى مستوى أفضل وأجمل، وتعمقت رؤيته في فلسفة الفن وجمالياته.. كان يرى ان معظم من سبقوه في هذا الميدان ينظرون إلى الإخراج الصحافي بوصفه عملية تزويق وتزيين، أشبه بتوزيع مجموعة من الزهور حول صفحات الجريدة أو المجلة، بينما كان يرى المهمة تتجاوز هذه الحدود، إنها في رأيه تشبه عملية تحويل النص الأدبي إلى عمل سينمائي، على يد مخرج متفوق، التعبير بالشكل عن موضوع ومضمون المادة الصحافية.
الإخراج الصحافي في نظره يتطلب الإحساس الجمالي نفسه الذي يمارس به الفنان دوره في رسم لوحاته الزيتية، بإخضاعها إلى مقاييس العمل الفني المتكامل، من حيث عناصر الحركة والمساحة والخط والدرجات اللونية، ويراعي مع كل هذا سهولة قراءة الموضوع، ووصول المعنى الى المتلقي. الهدف من الإخراج الصحافي هو التعبير بالشكل عن مضمون المادة الصحافية وليس تزييناً للكلام.

حلمي التوني… سيرة فنية عامرة بالمنجز الإبداعي

أما الغلاف، فينبغي أن يعبّر عن الروح العامة للفكرة الأساسية في الكتاب، وأن يقدّم المصمم عملاً موازياً في ثقله الأدبي أو المعرفي، يأتي بعد ذلك موضوع المزاوجة بين الرسم والإخراج، بمعنى إدخال النص في الرسم. والغلاف الناجح لا بد أن يتواءم مع روح النص، ليجتذب القارئ وعابر الطريق، هو عملية خلق جديدة، مدهشاً، مثيراً، ممتعاً بصرياً بلا تعقيد وارتباك في توظيف عناصر التصميم.

يذكر الفنان التوني – باعتزاز – دور أستاذه الرائد عبد السلام شريف في معهد الفنون الجميلة، حين طلب من تلامذته وضع تصميم غلاف لرواية «زقاق المدق» للكاتب نجيب محفوظ مع التخطيطات الداخلية. راح التوني يبحث في أزقة القاهرة القديمة، يراقب أهلها وساكنيها، يتأمل عمارتها وحركة الحياة الاجتماعية فيها، تجوّل في زقاق المدق، ظل يرسم زوايا الجدران، الظل والنور في الشرفات.. فكانت أول رواية رسم غلافها، واستمرت علاقته بأعمال نجيب محفوظ طوال حياته. جسّد شخصيات « أمينة» و»زنوبة» من الثلاثية، و» حميدة» في «زقاق المدق»، هكذا بدأ خطواته الأولى في الرسم الصحافي، وفق أسسه الصحيحة، فأحبّ الصحافة وشغف بها منذ ذلك الوقت.لقيت رسومه إقبالاً شديداً من الناشرين في بيروت والقاهرة، كانوا يتطلعون إلى رسومه على أغلفة روايات وكتاب الهلال ، يبحثون عنه ويطلبون منه وضع رسوم الأغلفة لكتبهم، كانت الحصيلة الآلاف من الكتب، فضلاً عن تصاميم خاصة بأصدقائه. لا شك أن دوره في حركة النشر في بيروت أسهم في تراجع الاندفاع نحو تصميم الأغلفة التجارية، وظهر من يقلدون أسلوبه وطريقة كتابته للعناوين والخطوط. عمل في المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ما أتاح له تقديم أعماله في الإطار المناسب نظراً للإمكانات الطباعية والتقنية الحديثة التي توفرت للمؤسسة في سبعينيات القرن الماضي. أقام التوني معرضاً في بيروت لأعماله الزيتية، مواصلاً مهمته في الصحافة حتى أصبح علماً من أعلام هذا الميدان، كلّفته منظمة اليونسيف التابعة للأمم المتحدة عن طريق حفيدة جورجي زيدان في وضع كتاب من تأليفه ورسومه وإخراجه للأطفال يتضمن المفاهيم والقيم التربوية والفنية المكرسة للطفل، فضلاً عن طابعه الترفيهي، فصدر بعنوان (ماذا يريد سالم).
طبع الكتاب بلغات الأمم المتحدة الست الرسمية بآلاف النسخ، كما وزّع في جميع أنحاء بلدان العالم. وفي العام الدولي للطفل 1979 صمم حليم التوني ملصقاً عن المناسبة فاز عنه بجائزة اليونسيف، كتب عليه شعاراً بالعربية «الأطفال أحباب الله» نجح الملصق نجاحاً مذهلاً لتكويناته المختزلة، وبساطة تصميمه. فاز بالجائزة الأولى لثلاث سنوات متتالية في مسابقة ينظمها معرض بيروت للكتاب حول فن تصميم وإخراج الكتاب للأعوام 79،78،77 ، وفاز بميدالية «معرض لايبزغ للكتاب» عام 1981. أجبره حصار بيروت عام 1982 على ملازمة منزله، عاد فيها إلى دراسة تاريخ الفن العربي الإسلامي، ورسم خلالها مئة لوحة من هذا التراث. في مرحلة لاحقة راح يرسم ما يعنّ له من أشكال بغير موضوع، أقام لها معرضاً في القاهرة عام 1985، اهتم في الملمس وخشونة السطح، كانت في نظره تمثل خصائص البيئة العربية، من دون اللجوء إلى الخامات الخشنة إنما أوحى بها من خلال اللون، مستخدماً الرموز

والأفكار الشعبية ذات الدلالة في رسوماته.تمثل المرأة في أغلب أعمال التوني الفنية عنصراً بصرياً تشكيلياً مهيمناً من دون منافس، بشكل رمزي أو دلالي أو واقعي، والمرأة في رأيه هي إحدى القدرات المؤثرة والغامضة أحياناً لما تحمله من قيم روحية وجمالية، وإنسانية راقية، في هذا السياق يخلق حلمي من موروثه أو خياله امرأته إذا جاز التعبير، ليجسد بأسلوبه الخاص المرأة كـ(ذات أو موضوع) لبلوغ أسرارها الخفية، وكعنصر تشكيلي في العمل الفني لي

عكس برمزيته معنى الحياة، فهو يحتفي بالجسد الأنثوي بتفاصيله التكوينية، والحركة والإيماءة لما يتضمنه الجسد من ليونة ومرونة، إنه ضرب من الغور الروحي لمكامن الجسد الغامضة.كان التوني حريصاً على روح المغامرة والاكتشاف وخوض المجهول، حتى لا يصاب بالسكون والتكرار، فكانت حياته رحلة بصرية تميزت بالمزج بين التراث والحداثة عبّر فيها عن الروح والحياة المصرية. اختتم حياته بآخر معرض (يحيا الحب) أقامه في آذار/مارس 2024 على قاعة «بيكاسو» في حي الزمالك.

نقلا عن “القدس العربي”