مازن المعموري*
غالبا ما نطلق كلمة (مهارة) على فن الرسم الكلاسيكي، لكن هذه الكلمة ذاتها تبدو سيئة حين نطلقها على الفن المفاهيمي، فالمهارة بالنسبة للفنان المفاهيمي، لا صلة لها بعمل معقد وسوف يتم وصفه بالعمل الذي لا يحتاج إلى مهارة أو عمل بلا مهارة، حيث تصبح كلمة (مهارة) مطوية داخليا في التعبير عنه، كما لو أنها تعني (حِرَفية) وبالتالي فإن ما يفعله الرسام بالألوان الزيتية لا يختلف عما يفعله صباغ الأحذية، لذلك فإن الفنانين المفاهيميين سعداء بتوظيف الحرفيين ذوي المهارات العالية لابتكار أعمالهم الجسدية والمادية، دون منحهم الشعور بالفضل.
من ناحية أخرى، نرى الرسامين المحافظين على التقاليد الفنية للرسم يؤمنون بأن المهارة لصيقة ومطابقة للفن، وغالبا ما يحددون المهارة على أساس القدرة التقنية لرسم اليدين، أو رسم الحصان، أو تكرار المظهر المادي للأشياء، ويتبجحون أحيانا بـ(كان عمري ستة سنوات حين رسمت ذلك). على سبيل المثال، لوحة (أوفيليا) للرسام الشهير إيفرت ميليس تلبي رغابتهم التقنية والمهارية في الرسم. خلاصة القول، إن هذا النوع من الفن يعشقه طلاب الفن في المراحل الدراسية الأولى، في الوقت الذي يحاول الأساتذة إبعادنا عنه تماما.
كل من مواقف المفاهيميين وأضدادهم يفوتون هذه النقطة، فالرسامون يخطئون في التمثيل الصارم للمهارة، والمفاهيميون يتناسون بأرْيحية إن الفن البصري يتطلب القدرة الكامنة مع لغة بصرية يجب أن تشحذ بالثقافة والرؤية العميقة.
كل الفنون البصرية تتطلب مهارة، لكن ليس كل فن المهارات عظيم. إن الإنترنت مليء بأمثلة عن أشخاص يقومون بعمليات رسم دقيقة لرسومات بقلم الرصاص والصور الفوتوغرافية، أو الصور الساكنة، ولا تظهر النتائج سوى المثابرة والممارسة في فن كتم الصوت إلى حد كبير. لم يكن على الفنانين الذين يصنعونهم أن يفكروا في الموضوع أو التكوين، أو ما يجب التشديد عليه من خلال التشويه أو التجريد، أو حتى اللون: فقد قاموا للتو بنسخ متقنة تسعى إلى النظر إلى أقرب صورة ممكنة قدر الإمكان. تنطبق هذه القاعدة أيضا على الفنانين المعاصرين الذين يفعلون الشيء نفسه، لكن بدلاً من استخدام أقلام الرصاص، يستخدمون ألعاب الأطفال التي تم رسمها، أو قطع Lite-Brite، أو دبابيس الدفع، أو العملات، أو العلكة، أو أي شيء آخر يمكن التفكير فيه. هذه الأعمال هي في الغالب تقليدية، وكلها تستخدم نظام شبكة، و/ أو جهاز عرض، حيث يمكن لأي شخص أن يقدر المهارة التقنية التي تدخل في الصورة الواقعية، والأدهى من المواد التي صنعها، مثلما فعل الفنان جو بلاك على واحدة من القطع في سلسلة صوره لقادة العالم، وهو يحمل أوباما على شاحنة، لم يكن فينسنت فان كوخ يتقن الواقعية بشكل كامل، وكانت أعماله المبكرة مؤلمة في بعض الأحيان. حين ننظر إلى صورة «آكلي البطاطس» نلاحظ كيف أن ذراع المرأة الأيسر أطول بكثير من ذراعها الأيمن، خاصةً بين الكتف والمرفق، وكأنها سوف تدلق الشاي كله على الجميع لأن الطاولة تميل إلى الأمام في المنحدر الحاد. في هذه الأثناء، نجد ظهر مؤخرة كرسي الرجل على اليسار في وضع مستقيم عند 90 درجة، بالتوازي مع حافة اللوحة، في حين أن المقعد في زاوية صحيحة تماما، على الرغم من أن الكرسي متجه إلى الداخل، فإن أشعة ضوء المصباح تأخذنا إلى أسفل الطاولة باحثين عن شيء ما. أعتقد إن فان كوخ كان يمارس الخداع البصري، دون أن يدري.
ان لوحة فان كوخ المليئة بالأخطاء التشريحية والتشوهات الخلقية، التي كانت مثار سخرية الوسط الفني في وقته، أصبحت اليوم من أشهر اللوحات في العالم وتاريخ الفن قاطبة، لسبب جوهري يكمن في أن الفنان وضع نقطة ضعفه لتتحول إلى نقطة قوة تحمل إرث المأساة البشرية ووحدة الصراع الطبقي في العالم الغربي الصناعي في ذلك الوقت. وربما كانت هذه اللحظة تحمل قلب الرؤية لما يمكن أن نسميه حرفية الفنان واحترافه العميق لديناميكية الخلق الإبداعي في الرسم والفن المعاصر.
هل يمكن أن نفهم المعادلة بعد كل هذا الزمن الطويل من سرديات التشكيل البشري؟ النواقص هي في الحقيقة نشازات إبداعية وهذا هو جوهر الفن، حين يكون النشاز إبداعا، وأستطيع القول إن ما يحدث من نشازات حادة في عالم الفن التشكيلي أصبح قانونا لمعرفة نقاط الاختلاف في تاريخ الفن وتطوراته. من هنا، أسوق مثالي في واحدة من أهم التجارب النحتية في الفن العراقي، التي حُجبت عن الاهتمام لفترة طويلة بسبب أيديولوجيا المرحلة الديكتاتورية، ألا وهي تجربة النحات صالح القرغولي، حيث نجد كل معايير العمل النحتي قد تم تأجيلها، وأقصد هنا مواد النحت التقليدية مثل الطين والحجر والبرونز وغيرها، في ضوء معطيات من سبقه من جيل الرواد مثل، جواد سليم ومحمد غني حكمت، فقد استخدم خيوط الصوف وشيش الحديد والقماش والأشياء البيئية المحيطة لابتكار كائن مستعار ومخلوق، كما لو أنه يمارس دور فرانكشتاين في صناعة كائن مختلف وجبار يحمل كل معاني الحس الداخلي لإنسان الأهوار الحر والمنسجم مع بيئته إلى حد تبادل الأعضاء بالقصب وخيوط الأفرشة الشعبية وقرون الجاموس وهياكل البيوت، ومنها إلى ترسيخ نسق جدل الاختلاف والتجاوز، الذي أسسه كل من فايق حسن الذي يمثل (المهارة) إلى جدل (الابتكار والتجاوز) الذي رسخه جواد سليم للاشتغال على مناطق الثقافة المحلية واستعادة الجذور وابتكار مناطق جديدة للتعبير عن الهوية والمكان والإرث العميق.
*كاتب عراقي