أحمد الأغبري
هو التشكيلي اليمني الوحيد الذي اشتغل، منذ أكثر من ثلاثة عقود، على مدينة صنعاء القديمة، من خلال تقنية الألوان المائية، مقدما نصوصا بصرية مغايرة، تتحسس أدق التفاصيل من أجمل الزوايا لمناظر معمارية إنسانية جمالية غاية في السحر، متميزاً بقدرته على توظيف ثنائية الأضواء والظلال؛ وهي مهمة ليست يسيرة في هذه التقنية، التي تحتاج لحرفية عالية؛ لأنها لا تحتمل تصويب الخطأ، كما هو الحال مع تقنية الألوان الزيتية، بل نجده، في هذه الأعمال، متميزا في استنطاق روح المدينة؛ فعندما تقف أمام اللوحة تشعر بالجدران كأنها تتحدث إليك!
أدرجت «اليونسكو» مدينة صنعاء القديمة ضمن قائمة التراث العالمي عام 1986، وتُعد من أهم مدن اليمن التاريخية، وتعد من أقدم المدن العربية المأهولة بالسكان، إذ يعود تاريخها لأكثر من ألفى عام… ولهذا تشعر عند زيارتها كأنما انتقلت بآلة السفر عبر الزمن إلى تاريخ سحيق؛ فكل شيء فيها ما زال على سحنته التاريخية؛ فثمة روح تتدفق مَن كل شيء هنا.. هذه الروح وهذا السحر الذي تشعر به وأنت تزور المدينة، هو ما يشتغل عليه مظهر نزار (أحد أبرز فناني الجيل الثاني في المحترف التشكيلي اليمني) في أعماله؛ فتشعر كأن هذه اللوحات جزء من المدينة.
نظم مظهر أكثر من 25 معرضاً شخصياً، وشارك في عشرات المعارض الجماعية داخل اليمن وخارجه، متميزاً بغزارة إنتاجه ودأبه على تطوير تجربته.. وتربطه علاقة قوية بالحركة الفنية العالمية؛ مستفيداً من إجادته للغة الإنكليزية؛ التي مكنته من القراءة بآفاقها الأوسع والتواصل مع المحترف العالمي؛ ما جعله قادراً على تنظيم معارضه في كثير من البلدان؛ علاوة على تفرغه للفن كمصدرٍ لمعاشه؛ فتجد مرسمه، في منزله في صنعاء، مؤهلاً بإمكانات إنتاج اللوحة، وبما يوازي حرصه على تطوير اللوحة انطلاقاً من مشروع واعٍ بما يريد؛ وهو مشروع أمسك به مبكرا.
شغف مظهر بصنعاء القديمة منذ قدومه لليمن عائدا من الهند، حيث ولد وتعلم وحصل على دبلوم في الغرافيك في كلية الفنون في كلكتا، ومنذ الثمانينيات وهو يرسم المدينة، وافتتح غاليري بالقرب من بوابة المدينة الرئيسية (باب اليمن) وهو الغاليري الذي استمر إلى ما قبل سنوات قليلة.
يشتغل نزار على تقنيات مختلفة، أبرزها تقنية ألوان الأكريليك، متخذاً من منظور المرأة لغة تجريدية يُعبر من خلالها، عن رؤاه تجاه الواقع.. إلا أنه خص المكان في اليمن بتقنية الألوان المائية، وتحتل مدينة صنعاء بما نسبته 98% من أعماله بهذه التنقية، التي يشتغل من خلالها واقعيا، وفق رؤى حديثة، على تفاصيل وجزئيات يُجِيد استنطاق جمال منظورها داخل صنعاء القديمة. هنا ناقشناه حول تجربته في رسم مدينة صنعاء القديمة بتنقية الألوان المائية؛ فكان هذا الحوار:
□ لماذا معظم أعمالك بالألوان المائية عن صنعاء القديمة؟ بمعنى ما الذي جذبك للاشتغال بهذه التقنية على معالم هذه المدينة؟
■ ربما أنا الفنان اليمني الوحيد الذي منح مدينة صنعاء القديمة هذا الاهتمام من خلال الألوان المائية، وربما أنني أكثر فنان يمني يرسم بهذه التقنية وبهذا الزخم؛ وهي تقنية مختلفة وجميلة جداً؛ لأنها تقنية خاصة تحتاج منك أن تجهز الألوان من وقت سابق وفق حساب دقيق؛ لأنها ألوان شفافة ولا تقبل التصويب؛ إذ لها نظام معين. ما جذبني للاشتغال على مدنية صنعاء هو ما تتمثله من خصوصية؛ فهي مدينة ساحرة ولا توجد مدينة بسحرها في العالم؛ إنها مدينة في غاية الجمال، وما زالت تزخر بالفن ولا تشببها مدينة أخرى في العالم من حيث الجمال: جمال المعمار، الزخارف، الشوارع، وديكور المدينة، كلها تتدفق سحرا، وبالذات في وقت الصباح. أنا أرسم من خلال تقنية الألوان المائية لمعالم مكانية في مناطق مختلفة في اليمن، لكنني مهتم بصنعاء لدرجة أن 98% من أعمالي في هذه التقنية لمدينة صنعاء؛ لأن صنعاء تكتنز من السحر الكثير الذي يدفعك لإعادة تجسيده واكتشاف مضمونه فنيا، من خلال منظور بصري تشكيلي.
□ لِمَ اخترت الاشتغال عليها بالألوان المائية دون غيرها من الألوان؟ ماذا تعطيك الألوان المائية في الاشتغال على المكان كصنعاء؟
■ كما تعرف أنا اشتغل على ألوان الإكريلك وتقنيات أخرى في أعمالي الأخرى. وبخصوص المدينة، وتحديداً مدينة صنعاء القديمة، أنا جربت أرسم بألوان الإكريلك لكنه لم يأت مثلما رسمت بالألوان المائية، خاصة السماء والأرض وغيرها من التفاصيل. هذه التقنية حساسة جدا وتمنح مباني وأجواء صنعاء سحرا خاصا؛ ولهذا أعجبتني هذه التقنية؛ لأن هذه التقنية مناسبة جدا لإبراز خصوصية المدينة، لاسيما من خلال الاشتغال على ثنائية الضوء والظل؛ وهي ثنائية تمنح لوحاتي خاصية بديعة، وهذا ما جعلني مستمرا في رسم المدينة من خلال الألوان المائية.
□ كيف تختار المنظر من داخل المدينة؟ ما السمات التي تفضلها في المنظر الذي ترسمه من صنعاء؟
■ أهتم كثيرا بالطرق والشوارع الضيقة التي تمتاز بها مدينة صنعاء؛ فعلى تلك الشوارع تطل البيوت وفيها ترى الناس كبعد إنساني.. أي أنك ترى الفن متجليا أمامك. وأنا أمشي في شوارعها قد تلفت انتباهي منارة جامع في سياق منظور معماري ساحر. لقد التقطت من زمان عدداً كبيراً من اللقطات الفوتوغرافية بكاميرتي لمدينة صنعاء، ومنها اختار المنظور، واشتغل عليه. تعجبني البيوت المطلة على الشوارع وتشدني الزخارف والنوافذ. أهتم كثيرا بالتفاصيل الفنية الصغيرة. في كل زاوية في المدينة تجد التاريخ يتحدث معك، تجد التاريخ حتى في ملابس سكان المدينة وحديثهم وتقاليدهم. لا أعرف حتى الآن كم رسمت من اللوحات لهذه المدينة؛ لكن العدد كبير جدا…لأن كل ما أرسمه أبيعه، حتى الآن، فبمجرد أن أعرض لوحه لمدينة صنعاء على «فيسبوك» يتصلون بي ويشترونها.
□ ما أهم ما تركز عليه خلال الاشتغال على منظورك؟
■ أركز كثيراً على الإنسان في سياق اللوحة الفنية للمدينة، سواء كانت امرأة أو طفلا أو رجلا على خلفية معمارية مكتملة الملامح الجمالية والفنية.
□ بماذا تتميز لوحاتك المائية عن صنعاء عن غيرها من لوحات الفنانين الآخرين؟
■ أنا الفنان الوحيد الذي رسم صنعاء القديمة بهذا القدر وبهذه الخصوصية بالألوان المائية. هناك فنانون آخرون كثير اشتغلوا على مدينة صنعاء القديمة، وبعضهم ركز على الوجوه، وبعضهم ركز على المعمار، والبعض الآخر ركز على تفاصيل معينة…هناك فنانون كثيرون رسموا المدينة، لكن قله قليلة جداً رسموها بالألوان بالمائية، ولعلي الوحيد من أعطاها هذا الاهتمام من خلال هذه التقنية؛ فالألوان المائية تقنية مختلفة جداً كما أسلفت، بل أنا الوحيد الذي أرسم المدينة، حتى الآن، بهذا الزخم والحساسية الجمالية من خلال الألوان المائية.
□ بالنسبة لي كمتلقٍ للوحة أشعر بأن ثمة حياة وروحا تاريخية تدب في لوحاتك…كيف تستنطق هذه الحياة في هذه المدينة وتمنحها للوحاتك؟
■ عندما جئت من الهند، ودخلت هذه المدينة؛ فوجئت بها وأنا أجد الفن في كل تفاصيلها؛ فرأيت أن أرسمها واستعيد روح الفن من خلال توثيق جمالها وسحرها تشكيليا بتقنية الألوان المائية؛ فجاءت لوحاتي مختلفة. وبالنسبة لي لم أجد مثل مدينة صنعاء في حياتي؛ ولهذا سأظل أرسمها إلى أن أموت لأن قلبي مع صنعاء.
□ ما هي الرسالة التي تريد إيصالها من خلال الاشتغال على هذه المدينة حالياً؟
■ رسالتي لليمنيين أن يحافظوا على صنعاء القديمة، ويضعوا حد للمخالفات المعمارية داخلها، يعملوا على إزالة التشوهات القائمة حاليا في جدران بيوتها، والقيام بترميم ما يستدعي الترميم من منازلها، فهذا الوضع لو استمر سيأتي المستقبل وقد اختفت معالم وملامح المدينة التاريخية.
المصدر/ القدس العربي