تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الفنان الحارثي .. فخامة غناء يتجاوز التطريب العاطفي

الفنان الحارثي .. فخامة غناء يتجاوز التطريب العاطفي

الفنان الحارثي .. فخامة غناء يتجاوز التطريب العاطفي

 

مصطفى راجح
يتميّز الفنان محمد حمود الحارثي بكونه متفرداً في أدائه، وفِي التزامه وإخلاصه لفنه.
لقد كان مشدوهاً بالغناء هناك في أقاصي الروح وأغوارها السحيقة. مشدوها بعالم آخر، حيث يحضر النّغم والوتر والأحاسيس المكثفة، وقد صيغت بمتانة صوت متمازج بالوتر المشدود، ورجع الصدى في العود، وقد غدا جزءاً من عازفه، ومن عالمه الخاص.
لم أسمع الحارثي إلا متأخراً. بتعبير أدق، لم أعْلَقْ به في وقت مبكر، وتأخر اكتشافي له إلى أن أندمجت بصوته ونغماته قبل عقد ونيف.
لا يأخذك الشغف بفنان لمجرد أن تسمعه، حتى وأن تكرر ذلك في فترات متتالية.
يحدث أن تسمع أغنية، فنانا، وتمر عليه، مرة بعد أخرى، وفي لحظة تسمعه كأنك تكتشفه لأول مرة.
لذلك أسباب مختلفة تتعلق بتجربة المرء الحياتية، التأثيرات التي كوَّنت شخصيته: تطوّر ذوقه، أو تغيّراته مع الزمن. غير أن الفنان المتميّز يبقى هناك، منتظراً أن تلتقي به، في لحظة يلتقط إحساسك الداخلي نغمته المتميّزة، وما يختبئ تحتها من إبداعاته الغنائية التي تبدو كجواهر وضعت هناك بانتظار ذائقة صقلها الزمن، وأنضجتها التجربة، وأمدتها الأحاسيس بالقدرة على التناغم مع الأغنية الراقية والنّغم الجميل.
بإمكاني إضافة ملمح لفكرة اكتشاف الفنان في لحظة معيّنة من حياة المتذوّق للفن؛ هي إحساس تشكّل لديّ أن الفنان محمد حمود الحارثي لا يُكتشف إلا بعد الأربعين.
يخيل لي أن قوة أدائه، نضج صوته وقوته، متانة عزفه، تحليقه بأداء كلاسيكي قوي وأخاذ تتكامل فيه كل هذه الأبعاد، يجعله مؤجلاً لمرحلة ما يكون فيها المرء قد تجاوز الإحساس العاطفي للمراهق، ولم يعد ينجذب للتنغيم والتطريب الذي يخاطب عاطفة المرء الأولى، التي لم تصقل بعد، ولم تتجاوز رد الفعل المنجذب للآني والعابر.

-قوة الأداء ومتانة الأسلوب
عذوبة الحارثي كلاسيكية فخمة، متانة أداء وقوة صوت، ونغمة رخيمة تحلق فوق الانفعال العاطفي، وكأنه يغني للا أحد؛ كأنه يغني للطبيعة الممتلئة بصمت من حوله، في ربوة عالية في وادي الأهجُر.
الصوت المشدود، والملامح القارة التي تخفي أكثر مما تُظهِر، والخشوع الممزوج بتأني رخيم، تذهب بي بعيداً حد أن ألاحظ أن الحارثي يعبّر عن نسق ملحمي للأغنية اليمنية أكثر من كونه يغني من خلال تجربة فردية خاصة به، وإن كانت هذه التجربة الخاصة قادحها الأول.
أداؤه القوي المتجاوز للتطريب العاطفي يرحل بي إلى تاريخ الأغنية اليمنية في تطوراتها عبر القرون. كأن صوته الكلاسيكي القوي يجول بي في الأعماق الخفية للتراث الغنائي اليمني، ويجعلني أستمع إلى منبعها الحِميري، ويتراءى لي أنني أشهد لحظة ميلادها الحُميني، وأصلها الأيوبي الرسولي، ونقاءها الطاهري، وازدهارها الكوكباني، ومستقرها الصنعاني، وصولاً إلى لحظة سطوعها في الزمن الجمهوري.
ليست كل تسجيلات الحارثي مندرجة في هذا الأفق، فقد عانى من رداءة التسجيلات مثل غيره من جيل الرواد، ولكنه أقلهم، أو على الأقل لم تهدر رداءة التسجيل عددا كبيرا من أغانيه مثلما هو الحال عند الفنان علي الآنسي.
مع ذلك، لدى الحارثي ما يكفي من التسجيلات النقية لمصفوفة الأغاني الجيدة التي تميَّز بها، وأجادها، ورسمت ملامح شخصيَّته الفنية وأسلوبه.
لو سُئلتُ عن سبع أغاني أراها أفضل أغانيه، وأكثرها تعبيراً عن أسلوبه الخاص ونغمته المتميزة، لأجبت بأنها بالترتيب:
ليت شعري لمه خلي اليوم أعتذر، خلي صقيل الترايب، السنا لاح، مال غصن الذهب، يا من يغير البدر في تمامه، سلام يا غوطة الأهجر وروضة بلادي، الشوق أعياني.
بإمكاني القول إن هذه نماذج لأغاني التمع فيها أسلوب الحارثي وتبلورت نغمته الخاصة، وهذه، وغيرها مما لم أذكر هنا، رسمت ملامح أسلوبه، ونغمة صوته، ولا ينتقص منها أنها ألحان تراثية، وبعضها أعاد تركيب لحنها على كلمات جديدة.
التراث الغنائي اليمني ثري وشاسع وقديم، وظهر في القرن العشرين على مرحلتين، الأولى في عدن بأصوات الرواد الأوائل: العنتري، الماسّ، أحمد عبيد قعطبي، محمد جمعة خان، عوض المسلمي، عبدالقادر بامخرمة، وسجلوا أغانيهم على أسطوانات في أول ظهور للأغنية اليمنية، مكن المستمعين من اقتناء تسجيلاتها وتداولها.
وبعدها، كان ميلاد اليمن الجديد بقيام الجمهورية وثورتي سبتمبر وأكتوبر، ومنه التمع في اليمن جيل كامل من الفنانين، غنّوا من التراث الغني والشاسع، وجددوه، وطوروه، ولوّنوا حياة اليمنيين بأنغامه العذبة والمتنوِّعة.
والحارثي، حتى عندما يغنِّي لفنانين معاصرين، كما فعل في أدائه لأغنيتين أداهما الفنانان أيوب طارش وعبدالباسط عبسي، من كلمات الفضول (يا حب يا ضوء القلوب، وفي مبسم الفجر) فهو “يحرثنهما” ويمزجهما بروحه، حتى يشعرك أنه ينطق بهما طريّتين من أعماق روحه، وبنكهته، وأسلوبه.
من بين الأغاني، التي أشرت إليها كنماذج لأسلوب الحارثي وسمته الأساسية في الغناء، أقول بثقة أن أغنية “ليت شعري لمه خلي اليوم اعتذر”، التي كتب كلماتها الشاعر الفنان عبدالرحمن الآنسي، على وزن قصيدة قديمة، وغناها الحارثي بلحن تراثي يمني قديم، بعثه بنغمة صوته، وأطلقه بأوتار عوده، هي ذروة أدائه.
تبدأ الأغنية بأناقة مطلعها العذب:
ليت شعري لمه خلي اليوم اعتذر
وابتلاني بذا الهجر والبين
صار طرفي وعقلي مولع بالسهر
كيف عاشق عيونه ينومين
وأهيم طول ليلي ودمعي كالمطر
والليالي عليَّا يطولين
والطيور أوحشتني بتغريد البُكَر
والهِزار والقمارى ينوحين
يؤديها الحارثي بصوت رخيم وكأنه ينغمها متكاملاً مع طبيعة صامتة من حوله، منسجمة مع جمال غنائه، وتنصت له لتكتشف نفسها في نغمات صوته ورنين أوتاره.
حين أستمع لتسجيلها النقي في ليلة هادئة، أجد نفسي منخطفاً نحوها، ومكتفياً بها عما سواها من غناء وموسيقى، وكأن لا أغنية غيرها.
وهذا ما تفعله كل أغنية متميزة تتجاوز الزمن، وتحتفظ بمكنون الإحساس الذي شكلها لأول مرة، وما أضيف إليه من تجارب وأحاسيس، أغنته، وجددته ليتمكن من الوصول إلى أذواق متجددة ومتغيّرة.
صحيح أن فن الغناء في أحد جوانبه له معايير معيّنة يقاس إبداعه عليها، لكنه في جانب مهم منه يمثل حالة مزيج من الذات الفردية، والمزاج العام لمجتمع ما، ومرتبط بنمط وأحاسيس وبرنامج نفسي معين، هو هنا نغمات الأمة اليمنية المنبثقة من روحها الممتدة في أعماق التاريخ.
في هذه الأغنية يصل الحارثي إلى هناك في أقصى تلافيف روحه.
لو كانت مقاييس الإجادة، نظرية تعليمية خالصة، لتمكنت معاهد الموسيقى في عالمنا الرقمي من تخريج آلاف الفنانين المتميّزين، لكنها لا تفعل ذلك، وليس كل من يدرس النوتة والمقامات والفنون الموسيقية قادرا على أن يكون فناناً حقيقياً.
-أسلوب مكتمل بلا تقسيمات زمنية
محمد حمود الحارثي هو الفنان الوحيد الذي لا تستطيع أن تتبيّن فارقاً بين أغانيه، التي أداها وهو مبتدئ، وتلك التي أداها بعد احترافه الغناء، ولا بين أغانيه أيام الشباب، وتلك التي غناها بعد نضوجه.
ولربّما تعذّر التمييز بين طفولته وبقية مراحله العمرية، إذ يبدو وكأنه وجد هكذا من أول يوم؛ بصوته المتين، طريقة أدائه، قوة عزفهُ، وعوده المشدود الأوتار.
أراه، من نوع من البشر، يولد هكذا، وكأنه لا يمر بمراحل الطفولة والمراهقة والشباب. ينزل هكذا، ناضجاً وفخماً من أول صيحة له في “القماط” الملفوف حوله بيدي القابلة، ويستمر بالنسق نفسه حتى مواراته في الثرى بيدي “الحفار”.
ربما، وإلى حد ما، يمكن تمييز أدائه في شيخوخته بصوت غدا واهناً، ولم يعد بكامل قوته وأدائه المتين، غير أن سماته كفنان لم تتغيّر، إذ يبدو أسلوبه واضحا ومحدداً، وكأنه خُلق له، ولم يبحث عنه أو يكتشفه.
وأداؤه هذا كان ثابتاً طوال مسيرته الفنية الممتدة من بداية سبعينات القرن الماضي وحتى وفاته عام 2007، التي مرت ذكراها السابع عشرة في 5 يوليو الجاري، دون أن يلتفت لها أحد، في بلد يبدو وكأن صراعاته المديدة والمهلكة قد أصابته بفقدان الذاكرة.
فقدان الذاكرة أشد من الدّمار المادي الذي تحدثه الحروب والصراعات المهلكة. فقدان الذاكرة هي الطلقة الأخيرة في حياة أي شعب.
الخطوة الأولى في تصفية شعب، في رأي ميلان كونديرا، هي محو ذاكرته:
“تدمير كتبها، ثقافتها، فنانيها، تاريخها. ثم اجعل شخصًا ما يكتب كتبًا جديدة، يصنع ثقافة جديدة، ويخترع تاريخًا جديدًا. قبل وقت طويل ستبدأ تلك الأمة في نسيان ما كانت فيه وما كانت عليه… صراع الإنسان ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان”.

-حسين محب ونغمة الحارثي
السمة السائدة لكثير من الفنانين الشباب هي التقليد. وإذا كانت الأجيال السابقة من الفنانين قد اعتمدت على التراث وطورته، فإن بين الجيل الحالي مستهترين أساءوا له، ويواصلون العبث بتراث غنائي أبدعته أجيال متتالية من الفنانين اليمنيين عبر آلاف السنين، حتى إن الأستاذ الفنان محمد مرشد ناجي شبَّه هذا التراث الغنائي بالراية التي يسلمها كل جيل للجيل الذي يليه عبر تاريخ اليمن المديد.
هذا الجيل مستهتر، وبالتحديد فناني الأعراس في صنعاء. ربما أستثني الفنان حسين محب، فهو نموذج للفنان الذي يحترم التراث الغنائي، ويؤديه بإتقان، بل ويضيف إليه بحسه الذي يعبّر عن “الذوق” الذي يتسم به الجيل الشاب الذي ينتمي إليه.
تجربته في تقليد الفنان الحارثي نموذج لهذا التفاعل بين جيلين.
هو قدّم نفسه من خلال أغاني الحارثي التراثية، ولكنه أيضاً قدّم الحارثي لجيل شاب لم يكن قد عرف الحارثي، وهام به، كما حدث بعد ظهور حسين محب.
بالتأكيد لم يضف حسين محب شيئا للحارثي، ولا تفوق عليه، إذ أن المقلد لا يتفوق على الأصيل، هذه تكاد تكون بديهية.
لكن شيئاً آخر هو ما قدمه: روح عصره، مبثوثة في أغاني الحارثي، نكهة الشاب وانطلاقة صوته، إذ يرتفع بالاتكاء على ما أسسه الحارثي، ويسهم إلى حد ما في منح الجيل الجديد مفتاحاً يلائمه للدخول في غناء فخم ومتين، يتسم بقوة الأداء، هو فن الحارثي.
أثبت محب أن خامة الجيل الجديد من الفنانين الشباب، جيله تحديدا، من الفنانين والفنانات، الذين تجاوزوا الأعراس وأجواءها المنفوخة بالقات، وظهر كثير منهم خارج اليمن في سنوات الحرب والشتات، لا تقل عن الأجيال السابقة، وبإمكانها أن تضيف الكثير، عندما تجد أفقًا خارج البُجم المنفوخة وصالات الأعراس.
ما الذي يجعلني أتكلم عن حسين محب في مقالة خصصتها للفنان الحارثي؟
التماهي بين حسين محب والفنان الحارثي لا يمكن المرور عليه بدون أن نكتب عما أضافتهُ، وما خصمتهُ من الحارثي هذه التجربة. التجربة التي تتجاوز التقليد إلى التمازج، الذي يمكن القول معه إن نغمة الحارثي وروحه قد امتدت من خلال الفنان الشاب، وإن بقيت تجربة الحارثي في سقفها الخاص، والمتميز بشخصيّته وأسلوبه، الذي اقترب منه حسين محب كما لم يفعل فنان آخر.
-ثم ماذا؟
ما الذي يمكنني قوله أكثر من ذلك عن الفنان محمد حمود الحارثي؟
ربما أحتاج إلى استعارة نيتشه، هذا الفيلسوف المولع بالموسيقى، الذي كان بالفعل موسيقيا وناقداً فذاً للموسيقى في عصره.
ومثله، أقول إنني أغدو شخصا أفضل عندما أستمع للحارثي، ومستمعا أفضل.
وإن هناك أفكار مختلفة تمر بذهني في تلك الأثناء، إذ نلاحظ أن الغناء الرفيع، مثل الموسيقى الراقية، يحرر العقل، ويمنح الأفكار أجنحة.
وأمام كل ما يثير إعجابي بعمق، لا أجد سوى هذا الاختصار النيتشوي المكثّف:
“كل ما هو جيد يخصبني. ليس لي من اعتراف بالجميل غير هذا، وما من دليل آخر لديّ عما هو جيد”.
أتأمل هذا الاختزال، بينما أسمع الحارثي يترنم بأغنية “خلي صقيل الترايب”:
خلِّي صَقيل الترايب
باهي الخُديد المورّد
قده شَبيه أم كَواكِب
لؤلؤ مكنّن بعسجد
وَغُرتِه في الذَّوائِب
مصباح في الليل يَصعَد
ما فيه عَيبٌ لعايب
من رَآهُ هَلَّل وَشهَّد
السحر في أحومِه
يَسقي سيوفَ الحوَر
وَالخَدُّ ما أَنعمه
فيهِ الندى وَالشرر
وَالخَمرُ في مبسمِه
وَالشهد بينَ الثغَر
أظنّ لَو أَلثمه
لَذابَ قَلبي قُطر

نقلا عن موقع قناة “بلقيس”