تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » أعز الناس

أعز الناس

أعز الناس

 

مصطفى راجح
في اليمن فنانين ، كلما سمعت أحدهم ، تخيلت نفسك متكئاً في جلسة مقيل. الفنان محمد سعد عبدالله من نوع مختلف عن الصورة النمطية لأداء الفنان اليمني وأجواءه النفسية.
كلما سمعت محمد سعد ، يحظر البحر في ذهني ، بهدوءه وقوته الكامنة في تموجاته التي لا تتوقف.
الحُب هو كلمة السر في نغمة محمد سعد وأغانيه. رومانسية عدن ونبرتها الهادئة ، لطافة لفظها وإنسيابية لغتها ، كل هذا تجدهُ في صوت محمد سعد وأغانيه العاطفية.
يغني كأنه يهمس في روحك بمعنى الحياة. صوته العذب يربت على القلب.
كان محمد سعد حقيقيًا. كان حقيقياً في نغمة صوته. حقيقيا في ملامحه. حقيقياً في إلتماع الدمع في عينيه. حقيقيا وهو طفل يمشي في جنازة والدهُ.
كان حقيقيًا عندما أستيقظ الشاعر داخله وكتب أغانيه . كان حقيقيًا عندما ألتقط اللحن المعبر عن روحه ، بقدر ماهو معبر عن قدراته الفنية العالية . وكان حقيقياً عندما وضع بصمة قلبه في كل لون غنائي أجاده وجدده ؛ وتجاوزه ليرسم اتجاها جديدا في الأغنية اليمنية : يعبر عنه اسمه الثلاثي : محمد سعد عبدالله.
لم يكن مؤدياً. لم يكن ممثلاً . لم يكن رجل عرض. كان فناناً. كان محمد سعد عبدالله ؛ في الحياة ، كما في الأستوديو والشاشة وأمام الجمهور.
ما من شيء يدهش البشر مثل البداهة والتعامل البسيط. جميع الأعمال العظيمة كانت بسيطة ، وكذلك أغاني محمد سعد عبدالله ، الفنان الذي تعلم الفن من مدرسة الحياة ، وصاغه بأوتار شجنٍ شفيف يتصعد من أعماق روحه.
-قسوة الحياة عندما تصنع الفنان !
عاش الفنان محمد سعد عبدالله حياة قاسية. جاء والده سعد عبدالله صالح من ماوية وأستقر في لحج ، وفي مدينة الحوطة رأى النور طفل سيضع بصمة لا شبيه لها في تاريخ فن الغناء اليمني ، بجميع ألوانه .
لم يكن قد أكمل سنته السابعة حين توفي والده. بعدها بست سنوات توفيت والدته. في سن الثانية عشرة وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الحياة.
ترك الفقدان أثراً عميقاً في نفسه ، لكنه كان الوقود الذي أنضج الفن في أعماق روحه.
قسوة الحياة قادرة على كسر الإنسان ، لكن موهبة محمد سعد وروحه المتقدة وأصالة شخصيته حولتها إلى أغاني وألحان وقصائد.
القدرة على التحمل ، الإشراق من وسط العتمة ، ميّزتا هذا الفنان. صنعتا شفافيته وإحساسه الأكثر رقة وإناقة.
الفاجعة صنعت العذوبة والهدوء الممتليء في نغمة أغانيه.
أكتشف بن سعد نغمة الإنتصار على العذاب في أعماقه ، ومعها عرف بإحساسه المرهف أي إيقاع يستهوي الناس.
انطبعت النغمة والإيقاع في روح محمد سعد.
حين تتحول المعاناة والألم والفقدان إلى أغنية ، إلى فن ، فإنها تصبح فناً مشعاً بالجمال ، تغدو أغنية الناس.
المعاناة تقع في الداخل ، وإذا تجاوزت فناء الفنان الداخلي لتستوي في النغمة ، الكلمة ، الأغنية ، فلن تصبح فادحة لأنها لُفظت إلى الخارج. تحولت إلى فن جميل يُبهج الناس.
يقول لنا محمد سعد عبدالله عبر أغانيه ، أن الألم أهم من الشهائد الأكاديمية ، وأن النغمة الأكثر رقة يصنعها الفقدان والحنين.
يتطلب الأمر روحًا مجروحة كي يشع الضوء من جنباتها. يحتاج الفنان تجربة حياة تخدش قلبه ليتدفق الحُب في كل نغمة يغنيها.
لأنه عرف الألم ، يمنحنا صوته دفء الحُب.
لم تكن حنجرة بن سعد تغني بل كان قلبهُ. العذوبة التي كانت تتقطر من نغمة صوته لم تتكون من كلمات : كانت خُلاصة حياتهُ بكل ما فيها من إحساس ، تجربة ، موهبة ، رهافة الشاعر ، تميزه في التلحين والغناء.
-شغفه بالغناء
ولد محمد سعد عبدالله في حوطة لحج ” 1938 م ” في لحظة فنية فارقة ، انتقلت فيها لحج من الأغنية التراثية إلى تأسيس الأغنية اللحجية ، وتحديدا مدرسة القمندان ، وروادها ؛ أحمد فضل القمندان ، فضل محمد اللحجي.
قبل مجيء القمندان ، كان الغناء الصنعاني هو السائد في لحج ، أعراسها ومخادرها.
كان والد محمد سعد فناناً ، أنتقل من ماوية وأستقر في حوطة لحج وعمل في فرقة القمندان ككورس وبعدها تألق كمطرب.
سأقول أن بذرة الغناء زُرِعت في وجدان محمد سعد في بيت والده ، حتى وقد غادره وهو لم يكمل السابعة من عمره.
ما أراد أن يقوله محمد سعد عبدالله ، تكون في طفولته المبكرة ، وقضى بقية عمره محاولاً قوله ؛ أغاني ، شعر ، ألحان ، وسيرة حياة .
يذهب جمال حسن ، الكاتب المهتم بالفن ، أبعد من ذلك ، إذ كتب في مقالة له عن بن سعد يقول :
” أما الانتسابُ الحقيقي للموسيقى فكان متصلاً بعائلته؛ إذ يعود بجذوره إلى أسرة “الفُتاحي” في ماوية، والمعروفة بالتصوف، وانتقل منها جَدُّه إلى لحج، مكانِ ولادته. ومثْلَ كثيرٍ من الأُسَر الصوفية، ظل الغناءُ شائعاً ومتوارثاً.”
هذا الشغف ملأ قلبه في سنوات طفولته ،
في بيت والده ، وفي مرافقته كعازف إيقاع لفنانين كبار في زمنه تأثر بهم ؛ وأهمّهم : عوض عبدالله المسلمي ، أحمد عوض الجراش ، أنور أحمد قاسم ، محمد سعد صنعاني.
غنى محمد سعد كل ألوان الغناء اليمني ، التراثي الصنعاني ، اللحجي ، الحضرمي ، العدني ، اليافعي وأجادها وطورها وكان من روادها المجددين ، لكن سمته الأساسيه ليست هنا.
كل ما لامسه غدى مصبوغاً بنغمته المميزة.
بدايته كانت بأغنية «محلى السمر جنبك» من كلمات الاستاذ محمد عبده غانم. ومن هذا اللون كانت أغنيته الشهيرة ” مابا بديل”
صوته العذب في هذه الأغنية كان إشهاراً لخامة فنية جديدة ميزته عن كل مجايليه من كبار الفنانين في اليمن.
له ما يقرب من مئة أغنية ، إذا جاز لي أن أحدد عشر أغاني منها ، سأرتبها عندي هكذا :
مابا بديل ، كلمة ولو جبر خاطر ، يقرب الله ، أعز الناس ، لهيب الشوق ، احترت في ناس ، أعطيتني وعد ، وسط صنعاء شفت ذياك الغزال ، يا ناس ردوا حبيبي .
معظم أغانيه من كلماته وألحانه ، ومن الشعراء الذين غنى من كلماتهم :
لطفي جعفر أمان ، إدريس حنبله ، يوسف مهيوب سلطان ، أحمد الجابري وآخرين.
كل مبدع استثنائي يتجاوز الإهتمام بتلميع إسمه والسهر على تحقيق الشهرة. كان آرثر رامبو يرى أن الكاتب ينبغي ان ينشر مؤلَفَهُ بدون اسم. ينزل الكتاب غُفلياً من اسم كاتبه.
تذكرت ذلك وانا اقرأ مقدمة الفنان محمد سعد لديوانه الشعري ” لهيب الشوق ” الذي صدر في منتصف الثمانينات ، وجاء بعد حملة طالته عقب أغنية ‘ يا ناس ردوا حبيبي ” يقول :
( وللتخفيف من حدة تلك الحملات الهجومية المغرضة لجأت الى أسلوب التضليل، فنسبت بعض اغنياتي المنشورة في هذا الديوان الى اشخاص اخرين حتى اثبت للحاقدين اني لا اكتب الشعر لمزيد من الشهرة ولكني اكتبه حباً فيه فقط”.
في حضرموت عاش محمد سعد عاما كاملاً ينقب في تراثها الغنائي ، يدرسه ، ويستقصي مكوناته وأبعاده ، وغنى مجموعة من أجمل أغاني التراث الحضرمي ، ولحن أخرى من كلماته.
في الغناء التراثي اليمني كان رائد المجددين ، بدايةً من اغنية ” يقرب الله لي بالعافية والسلامة ” التي غناها مع الفرقة الموسيقية ، وأغنية ” وسط صنعاء شفت ذياك الغزال ” وهذه الأخيرة من كلماته وألحانه.
لست هنا لأسرد كل أغانيه ، فقد كتب عنها كثيرين ولا زالت موضع دراسات وابحاث المهتمين بفن محمد سعد. ، الذي كان له تأثير كبير على الأغنية اليمنية ، والأغنية الخليجية وفنانيها في كل دول الخليج.
وبعض الفنانين الخليجيين حاول السطو على أغانيه ، كما حدث لأغنيته الشهيرة ” كلمة ولو جبر خاطر ” والفنان عبادي الجوهر الذي حاول ان ينسبها لنفسه لم يكن الأول ولن يكون الأخير.
-هذا هو الفنان
رأى محمد سعد أبعد من حدوده. أدرك شرارة الفن في أعماقه ، وأتخذه ملاذاً يرى فيه ذاته وينتصر به على قسوة الحياة.
الحُلم نقطة مخفية في أعمق وأشد مناطق الروح حميمية. في روح محمد سعد كان هذا الحُلم ، قبل ان يتحول إلى تجربة حياة ، تجربة حُب ، ونغمات وأغاني يجد فيها الناس تجاربهم وآهاتهم.
هذا هو جوهر تجربة محمد سعد الملهمة. وتذكرنا أنه على مر التاريخ، كانت القلة المبدعة ؛ أولئك الحالمين والفاعلين الجريئين ، هم الذين ساهموا حقًا في تشكيل وجداننا وذائقتنا الفنية وأفكارنا ونظرتنا للحياة والعالم .
أغنية واحدة بصوت محمد سعد الأكثر رقة وعذوبة ، تسمعها في هدأة الليل ، بإمكانها أن تخلق لديك احساسا واثقا بأن اليمن بخير والحياة جميلة وتستحق أن تُعاش . هذا هو الفن : يغيرنا ويعيد لنا ثقتنا بالحياة

نقلا عن موقع قناة “بلقيس”