تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » “الفنان المجهول”

“الفنان المجهول”

يوم الأغنية اليمنية: محاولة «افتراضية» لاستعادة بلد ما قبل الحرب

 

مصطفى راجح
كنت أستمع للفنان محمد سعد عبدالله، وأنا ماراً بصنعاء القديمة، وهو يغني بصوته العذب: “يقرب الله لي بالعافية والسلامة، وصل الحبيب الأغن”، شعرت باليمن كلها تتكثف في نغمة صوته.
ما لامس أحاسيسنا ذات يوم لا يُنسى أبداً. كل ما نحبه بعمق يصبح جزءا منا.
هذه الألحان العذبة، الممتزجة بكلماتها وكأنها خُلِقت معها وعاشت معها، تعبير عن الإنسان اليمني، الذي رافقه الغناء من أول لحظة وجد فيها على هذه الأرض اليمنية.
فن الغناء اليمني كائن حي، مجازاً، لم يولد دفعة واحدة، لكن أشعاره وألحانه تطورت عبر أجيال عديدة تمتد لمئات السنوات، وأبعد من ذلك تمتد لآلاف الأعوام.
“الفنان المجهول” هو الشعب، هي الأمة اليمنية، رجالها ونساؤها. منبع كل الأغاني هي المهاجل والأهازيج، الملالاة والدندنة؛ من الحقول والوديان، الجبال والسهول، وفي كل مجال للعمل والحياة والحروب في أزمنة اليمن المتعاقبة، وضعت حناجر النساء والرجال الملامح الأساسية للفن اليمني “شعراً وقوالب لحنية وأغانيَ”.
تستمع اليوم للفنان محمد حمود الحارثي يغنّي “ليت من كلمك حتى كلام”، ويخطر في بالك اللحن نفسه الذي نسج عليه مستخدماً كلمات جديدة، تلك هي أغنية الفنان علي الآنسي “خطر غصن القنا”.
الآنسي بدوره أخذ اللحن من أغنية شهيرة في التاريخ اليمني، تذكر مقترنة بقصة “الدودحية”، وأي متتبع لما قبلها سيجد أنها أخذت من أغنية شعبية أقدم منها.
يطربنا الحارثي بأغنيته المتميزة “سلام يا غوطة الأهجر وروضة بلادي”؛ هذا لحن أغنية “يقرب الله لي بالعافية والسلامة”. وغناها الفنان محمد سعد عبدالله، وقبله في ثلاثينات القرن العشرين غناها الفنان عوض عبدالله المسلمي.
مواصلة البحث ستصل بنا إلى اكتشاف أن هذا اللحن أقدم، وأداه آخرون، بكلمات أخرى، ولكنه لم يوثق في زمن لم يكن الناس قد عرفوا فيه تسجيل الأغاني، الذي بدأ لاحقا على أسطوانات، وتطور إلى ما نعيشه اليوم من تكنولوجيا رقمية تمكّنك من تنزيل ما ترغب به من أغانٍ بضغطة من أصبعك في شاشة الموبايل.
يقول الفنان محمد مرشد ناجي إن أغنية “صادت عيون المها قلبي بسهم المحبة”، لحن قديم استهوى الأمير أحمد فضل القمندان، فأضاف أوزانا جديدة ملحنة عليه، الأمر الذي أكسب اللحن القديم جمالا وروعة. بعد القمندان غناها المرشدي بأسلوبه الخاص، وأبدع فيها، وغناها أبوبكر سالم بالفقيه وفيصل علوي.
“رسولي قوم بلغ لي إشارة” غناها، من جيل القدماء، الفنان أحمد عبيد قعطبي، وجددها، بل وأعاد خلقها، الفنان أبوبكر سالم بالفقيه، بمشاركة العازف الفنان أحمد فتحي.
هل صحيح أن أقدم لحن يمني كان قبل سبعمئة عام؟ كيف تشكلت هذه الألحان، وفي أي أزمنة تغذى مخزونها الهائل بألحانه المتنوعة بجمالها الذي لا ينضب؟
– نبع الألحان التراثية القديمة
الألحان اليمنية كلها قديمة، وُجد في العصر الحديث من يطورها، ويضيف إليها، لكن الأساس كله قديم تبلور عبر أجيال متتالية من تاريخ اليمن.
يقول الفنان محمد مرشد ناجي -في كتابه “الفن اليمني القديم ومشاهيره”- إنه سأل الحاج عوني حسن العجمي عن مدى علمه بوجود ألحان جديدة عرفها في عصره، أو سمع بها من أبيه وجده، وهو المُعمر المهتم بالفن من أوائل القرن العشرين: أجاب بالنفي؛ “لا ألحان جديدة”. وحمل المرشدي السؤال نفسه إلى الحاج العزى سعد يسر، وهو من جيل الحاج عوني، فأجاب بالجواب نفسه.
ما يُعرف اليوم ب”الفن الصنعاني” هو في الأصل فن الغناء اليمني، ويجمع الباحثون، من جعفر الظفاري إلى جاك لامبير، أنه يعود إلى فترة الشعر الحميني، الذي ولد قبل سبعة قرون في تهامة وتعز وحضرموت، ووصل لاحقاً إلى صنعاء في نهاية القرن السادس عشر الميلادي.
روى الحاج عوني حسين العجمي للفنان محمد مرشد ناجي، نقلا عن والده، أن المطربين في صنعاء كانوا يجتمعون أسبوعيا في منزل الشيخ سعد عبد الله يغنون لبعضهم، ويتعاونون في تحسين الأغاني.
ويشير جاك لامبير في كتابه “طب النفوس” إلى أن كل فنان صنعاني قديم كان يحمل معه حافظة مدوَّن فيها مئتا لحن قديم، تعتبر مرجعه في التلحين، سواءً بتركيب كلمات جديدة على لحن قديم، أو دمج جمل لحنية من ألحان مختلفة.
كان فنانو صنعاء القدماء يجتمعون في منزل الشيخ الفنان سعد عبد الله من أجل تركيب قصائد معاصرة على ألحان قديمة، والاستفادة في الوقت ذاته من حافظة الشيخ سعد، الذي يروى عنه الحاج عوني بأنه كان أديبا وشاعرا، وأنه يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف قصيدة؛ وهو رقم شعري، وليس نغميا، حسب تعليق المرشدي، ذلك أن الألحان التراثية التي تناهت إلينا من المطربين القدامى لا تطابق هذا العدد.
ويذكر جاك لامبير -من مرجع يعود إلى المؤلف والباحث الحبشي- أن كتابين مفقودين اليوم تم تأليفهما في عصر الدولة الرسولية حول الألحان، وأنه في تلك الفترة كانت تصنع في سوق تعز خمسة أصناف مختلفة من آلة العود والرباب “اختفت فيما بعد”، وكذلك أشكال مختلفة من الطبول والدفوف.
– تجديد التراث الغنائي اليمني
قبل أن يتشكّل موروثنا الغنائي مسجلاً على الأسطوانات في بدايات القرن العشرين، كانت أجيال من الفنانين والشعراء قد رسموا ألوان الغناء اليمني بتنوعها الثري، وتعدد أنغامها المعبِّرة عن هوية وطنية يمنية تتسم بتنوّع لا مثيل له.
جيل الروّاد في النصف الأول من القرن العشرين في عدن كانوا خلاصة أجيال من الفنانين، الذين سبقوهم.
نذكر منهم عوض عبدالله المسلمي، صالح العنتري، أحمد عبيد قعطبي، الماس، علي أبوبكر باشراحيل، والفنان عبدالله البار.
كان تطور تسجيل الأغاني على أسطوانات سمة مميزة حفظت أغانيهم، ووثقتها، سواء تلك التي أدوها من التراث القديم، أو ما طوروه وأضافوا له، وما مكنتهم مواهبهم للاشتغال عليه من ابتكار وتجديد وإنتاج. لقد كانوا ثمرة لفن الغناء اليمني الذي سبقهم. وكان جيل ثورتي سبتمبر وأكتوبر ثمرة لجيل فناني اليمن الكبار في عدن، وامتدادا لهم.
روح ثورتي سبتمبر وأكتوبر، والأمل الوثاب الذي بثته في اليمنيين، نجده واضحاً في فناني الستينات والسبعينات. نغمة حياة جديدة عكست نفسها في أدائهم وأغانيهم. إحساس بالحياة يتدفق في أصواتهم، وكأنها كانت اللحظة المناسبة لتجلي موجات الغناء اليمني الرحالة عبر العصور، والتي التمعت، كما لم تفعل من قبل، في أغاني أبوبكر سالم، علي الآنسي، أيوب طارش، محمد محسن عطروش، محمد سعد عبدالله، علي السمة، أحمد بن أحمد قاسم، أحمد السنيدار، فرسان خليفة، محمد عبده زيدي، عبدالباسط عبسي، أحمد فتحي، إلى آخر أسماء السلسلة الذهبية للفن اليمني في النصف الثاني من القرن العشرين.
تطوير أغنية والإضافة إليها يتطلب فناناً قادراً على تذوق اللحن ومزجه في نغمات صوته وإحساسه. الشاعر الملحن القريب من وجدان الشعب، هو برأي الفنان المرشدي، الوحيد القادر على الإضافة الوزنية لتمكنه من الفنين. أما الشاعر غير الملحن وعديم الصلة بالغناء فليس له بالإضافة أي نصيب.
يضرب المرشدي مثلين على الشاعر الملحن: الأمير القمندان والأستاذ عبدالله هادي سبيت.
وربما جاز لنا هنا إضافة الشاعر المحضار والأستاذ الفضول، ليس لأنهما مُلحنان، وإنما لكونهما يهيئان اللحن ويمهدان له من خلال أوزان القصيدة وإحساسهما الفني بمقاطعها وطلعاتها ونزلاتها.
المسألة في تطوير اللحن، حسب رأي المرشدي، يحكمها قانون الذوق والإحساس، والقدرات الصوتية لدى الفنان وهو يؤدي أية مقطوعة لحنية قديمة كانت أو حديثة.
إن السامع الذواقة يحس بعظمة الموشح اللحنية من الشيخ على أبو بكر لامتلاكه المواصفات التي ذكرناها، وهذا هو سر تفوقه على زملائه ممن يؤدون الموشح. ذلك ينطبق على تجديد الأغاني، وإذا لم يمتلك الفنان هذه المواصفات، فلن يأت بشيء سوى أن يكرر ويعيد ما بدأ به غيره من مئات السنين، وبأسلوب منفصل عن روح اللحن وجمالياته الفنية.
لا نحتاج هنا إلى نماذج للتدليل على ما يحدث عندما يؤدي الفنان أغاني التراث بأسلوب آلي فج، يشوّهه بدلاً من أن يضيف إليه. هذه النماذج نعايشها، ونشاهدها بخدود منتفخة في صالات الأعراس وشاشات “يوتيوب” كل يوم.
يروي الفنان المرشدي قولاً ظريفاً، ينطبق على من يشوهون الأغاني القديمة بدلاً من أن يطوروها ويضيفوا لها. كان يتحدث عن الألحان القديمة في مقيل صنعاني، وإذا بالحاج العزى يسر الظريف يلخص ذلك؛ عندما قال:
«إن الغناء زمان كان يدخل في العروق والشرايين حق ابن آدم، ولكن غناء اليوم لا تدري أين الفاصل، وأين الطالع من النازل».
– الجذور القديمة للغناء اليمني
ذكر صاحب “الأغاني” أن غناء أهل اليمن يرجع إلى “علس ذي جدن”، وهو ملك يمني كان أول من تغنى باليمن، ولُقِب بذي جدن لجمال صوته، فالجدن هو الصوت الحسن عند أهل اليمن.
ويستند المؤرخون إلى رواية المؤرخ العربي الشهير المسعودي، الذي يقول:
“إن اليمنيين عرفوا نوعين من الغناء (حِميري وحنفي)، وكانوا يفضلون الحنفي، ونتعرف في هذين النوعين على غناء قديم هو الحِميري، ومعناه موسيقى الحِميريين، وعلى نوع أحدث هو الحنفي”.
كونه فنانا متميزاً لا يشبهه أحد، فإن الأستاذ محمد مرشد ناجي باحث ومؤلف اهتمّ، من وقت مبكر، بالتراث الغنائي اليمني، وله مؤلفات عديدة في هذا المجال، أهمها كتاب “الغناء اليمني القديم ومشاهيره”.
يشير المرشدي في كتابه هذا إلى أن تاريخ الغناء اليمني مرتبط بوجود الإنسان اليمني على الأرض اليمنية، وليس محددا بعصر من العصور.
ويعود إلى كتاب “تراث الموسيقى العالمية”، ترجمة سميحة الخولي، ليضيء فكرته بهذه الجملة التي تقول: “إن الأجناس البدائية، من عصور ما قبل التاريخ، قد غرست البذور التي نبتت منها كل الموسيقى الرفيعة في الشرق والغرب”.
الأستاذ الصادق الرزقي -صاحب “الأغاني التونسية”- في باب الأغاني والموسيقى واللغة، يحدثنا عن جذور الغناء اليمني بما يلي:
“على أننا إذا أردنا مقايسة اللغة للأغاني بما سواها من اللغات رجعنا بها إلى أحقاب بالية وعصور خالية، ونظرنا إلى عاد وثمود آل تُبّع ويعرب وطسم وجديس، فنظرنا إلى تلك المدنية العربية والحضارة الحِميرية التي بقيت لنا أطلالها تنشد على نغماتهم الشعرية؛ ولولا الأغاني لما كان يوجد لدينا منها شيء يذكر. فإننا بتلك الأشعار تتبعنا آثار العمران القديم، فاهتدينا إلى أن تلك الحضارة لا تخلو من كمالات في ظروفها وضروبها، وبديهي أن الغناء والطرب من ألزم الضروريات، وقد علمنا أن العرب سكان اليمن والحيرة وحضرموت وسبأ وغيرها قد أوتوا من الذلاقة وصفاء الصوت وحسنة، درجة سامية”.
– خاتمة .. عن الفنان الشيخ عبدالله البار
في يوم الأغنية اليمنية، قلت في بداية هذا المقال إن “الفنان المجهول” هو الأمة اليمنية التي تجلت هويتها عبر أجيال متعاقبة من فنانين مجهولين لم نعرفهم، ولم توثق أصواتهم، وعبر الفن الشعبي في مختلف العصور.
وأختم مقالتي هذه بالحديث عن “فنان مجهول” ولد وتوفي في أندنوسيا.
في يوم الأغنية اليمنية، الفاتح من يوليو، تذكرت فنانا كبيرا لم يعرف كثير من اليمنيين عنه شيئاً، هو الفنان الشيخ عبدالله البار الدوعني، وهو من أوائل الفنانين اليمنيين في القرن العشرين، ولم يعرف اليمن؛ إذ ولد في جاوة بأندونيسيا عام 1908، وتوفي أواخر الأربعينات.
قبل سنوات، فاجأني صديقي الأستاذ محمد النصيري، المثقف الموسوعي ورئيس مؤسسة العفيف الثقافية السابق، بإرشيف كامل من الفن، ووسط هذا الفلاش الأرشيفي خمسين أغنية من أشهر ما غنى شيخ البار الدوعني، الذي احترف الفن مبكرا في أندونيسيا.
غنى البار، خلال حياته القصيرة، ما يزيد عن سبعين أغنية مسجلة على الأسطوانات السوداء، وكلها أغانٍ تراثية يمنية، وأغانٍ أخرى جديدة لشعراء غنائيين يمنيين من حضرموت وغيرها، ولم يزوروا أندونيسيا، وكان جمهوره هم الحضارم في هذا البلد الذي ارتبطوا به، وعاشوا فيه من أزمنة قديمة.
لم يعرف الفنان شيخ البار اليمن على الإطلاق، لكنه حنجرة اليمن، وصوتاً ممتلئاً بالأغنية اليمنية، وعلاوة على تخصصه بالفن الحضرمي كالدان بأنواعه، وسائر الألوان الحضرمية، كان يؤدي اللون الصنعاني واللون اليافعي والتهامي والعدني.
يصفه الأستاذ أحمد الصالحي -من الكويت- بقوله:
“شيخ البار كان مطرب الجالية اليمنية الكبيرة في أندونيسيا وأسطواناته الرائعة دليل على عظمة هذا المطرب العملاق الذي لا يقل من حيث الكلمة واللحن والأداء عن عمالقة مطربي اليمن، ولكن بعده عن وطنه، وإقامته الدائمة في أندونيسيا هي التي جعلت موسيقاه لا تنتشر في اليمن حتى غدا مجهولا عند العموم، بل حتى عند بعض المطربين”.
أشهر أغاني شيخ البار، وهو اسم الشُهرة الذي عُرف به:
نسيم حاجر
يا ريم حاجر
اغنم زمانك
سمعت الربابة
ربنا يصلح الشان
عادت علينا الليالي
قال المعنى
كان لي زمن واقف
قال ابن جعدان
المعبن الله
يا بروحي من الغيد
صباح المسرة يا غصبن البان
صلوا كما عثمان
شربنا من سلسبيله
من يرحم التعبان
دع الوشاة

نقلا عن موقع قناة “بلقيس”