كتابة دنيا هاني
تظل الكلمات تواقة في مدح صوته، كلماته، ألحانه، وأغانيه ويظل هو ربان سفينة الفن اليمني الأصيل الذي في الحديث عنه يجعلنا نرتجل من جمال الماضي قيمة الحاضر الذي ما زال متربعاً فيه ويهيم بألحانه أعماق المطربين والمستمعين له. ينبض غناؤه في قلوبنا كغصن الشجر وورقات الزهر. في ملامحه عشق الحضارة اليمنية وفي عيونه شوق وحنين لتراث هذا البلد حين تغزل فيه بأغنيته أمي اليمن قائلاً أنت الحضارة.. (أنت المنارة.. أنت الأصل والفصل والروح والفن.. من يشبهك من، من يشبهك من يا يمن).. وعبر عن انتمائه لبلده وأهله من خلال هذه الكلمات.. (وأنت يا عاشق ديارك قم وهم وأنفض غبارك.. المكلا لك.. ولك صنعاء .. ولك بندر عدن.. اليمن طيب وأطيب ناس خلان اليمن).
ومن دون الإطراء أكثر فالكلمات تعجز دوماً عن وصفه لأنه الفنان والعملاق الكبير أبوبكر بن سالم بن زين بلفقيه يمني الأصل وسعودي الجنسية، فنان مخضرم مبدع ومتواضع لم تغره الشهرة أبداً، ولد عام 1939م في تريم بحضرموت في اليمن. ]وبدأ مشواره الفني عام 1956م ثم ذهب إلى السعودية عند جده عبدالرحمن بلفقيه عندما توفي أبوه وهو صغير السن في مكة المكرمة وتعلم على يد جده الشعر والأدب وأكمل دراسته إلى أن أصبح مدرساً في مادة التاريخ بالطايف ثم بعد ذلك رجع إلى موطنه اليمن والتقى بالفنان الشاعر الراحل حسين أبو بكر المحضار وغنى العديد من أشعاره وساهم مساهمة كبيرة في تطوير تراث الدول العربية وخاصة اليمني من أمثال الغناء الحضرمي والعدني والصنعاني وتألق كشاعر وملحن.
الفنان أبوبكر هو من أسرة (آل بلفقيه) المعروفة في حضرموت وهي أسرة متدينة ومثقفة اشتهرت بالعلم والتدين متفرعة من السادة باعلوي. يذكر أنه تعلم القرآن الكريم، ودرس اللغة العربية بمدينة العلم والحضارة تريم حضرموت في طفولته، وأجتهد بدراسته وتفتقت مداركه مبكراً لإحساسه بأن الدراسة وسيلة صحيحة لفهم الحياة التي لم يعشها «أبوبكر سالم بلفقيه» مع والده الذي توفي وهو لم يتجاوز الأشهر التسعة من عمره، وقد سماه أبوه «أبا بكر» بعد أن رأى رؤية من لدن آل الشيخ أبوبكر مولى عينات تدعوه لتسميه المولود الجديد ب«أبي بكر».
كانت مدينة عدن قد شهدت انطلاقاته الفنية الأولى وخاصة في عهد الستينيات حيث تعرف أبو بكر بالكثير من شعرائها وفنانيها وإعلامييها من أمثال الشاعر لطفي جعفر أمان والفنان أحمد بن أحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله ومحمد مرشد ناجي والشاعر والإعلامي فضل النقيب وغيرهم. وتزوج للمرة الأولى عندما كان في عدن من بيت آل عرفان وهي أسرة حضرمية كانت تقيم في عدن وأنجب أولاده (أديب وأنغام وألحان). ثم تزوج مرة أخرى من أسرة تنحدر سلالتها من محافظة حضرموت أيضاً وأنجب طفله (أصيل) الذي أصبح الآن فناناً مرموقاً أتخذ الطابع الخليجي أسلوباً غنائياً له واستفاد في صقل موهبته من خبرة والده الفنان أبوبكر، وله شراكة مع والده في بعض الأغنيات.
ونستطيع القول بأن فناننا عاش متنقلاً بين عدن وبيروت وجدة والقاهرة إلى أن استقر في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية. وكان أبوبكر قد قدم نفسه لجمهور الطرب والغناء من خلال الحفلات الموسيقية وإذاعة وتلفزيون عدن وكان من أوائل أغانيه (يا ورد ما حلى جمالك) التي غناها بعد ذلك الفنان السعودي الكبير طلال مداح (الجابري) ويعتبر أبو بكر سالم عميد الفن الحضرمي. وكان قد زار مدينة تريم عام 1982م وطاف مع ذكرياته بكل أجزاء بيت أجداده ومكان ولادته.
كما غنى بلفقيه العديد من الأغاني والأناشيد الوطنية اليمنية والخليجية الرائجة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. وغنى له الكثير من الفنانين العرب ووزع ألحانه على كل من وردة الجزائرية في أغنية (سيبوه) والفنان الراحل طلال مداح وكلً من نجاح وذكرى في أغنية يا مشغل التفكير وأيضاً تعاون مع الفنانة أصالة وأنغام والفنان راشد الماجد ومع الفنان عبدالمجيد عبدالله في أغنية (عسل دوعن) وتعاون مع الفنان الكبير عبدالله الرويشد في أغان كثير منها (ما في احد مرتاح) وأصيل أبو بكر في أغنيته (حطني بعيونك). وانتشرت أغانيه في معظم الدول العربية.
وكان قد ذهب إلى لبنان لإكمال مشواره الفني وقد اشتهر في ذاك الزمن وكان وقتها مع سطوع عمالقة الفن منهم الفنان الراحل عبدالحليم حافظ وأم كلثوم وبعد ذلك رجع إلى السعودية وواصل مشواره الفني. ومن خلال ألبوم (امتى أنا أشوفك) تحصل على الاسطوانة الذهبية من اليونان أثينا عام 1968م وفاز بالمركز الثالث في مسابقة طبقات الصوت التي نظمتها منظمة اليونسكو كأفضل ثالث صوت من حيث الطبقات في عام 1978م ونال وسام الفنون من الدرجة الأولى من الرئيس اليمني علي عبدالله صالح عام 1989م، كما نال وسام التقدير والامتياز من وزارة التراث القومي في عمان عام 1992م، وحصل على جائزة أفضل أداء غنائي في مهرجان أبها السياحي عام1999م ووسام التقدير من مهرجان الأغنية في الإمارات وأيضاً شهادة على الإنجازات الفنية من خلال مهرجان الأغنية الخليجية.
وفي عام 2003م أصدرت اليمن طابعاً بريدياً باسمه تكريماً له ولفنه ولعطائه، كما حصل على أوسمة وجوائز فنية عديدة من بينها الدكتوراه الفخرية التي منحتها إياها جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا تقديراً لمجهوده في إبداعاته الفنية وتطوير أداء الموروث الحضرمي ونشر الأغنية الحضرمية على مستوى الساحة العربية، بينما في صنعاء أطلق اسمه على قاعة حديثة للفنون والثقافة.
وما يزال الفنان أبو بكر سالم عملاق الفن اليمني الأصيل وقيمة فنية وتاريخية لن تتكرر على مدار سنوات قادمة..